حرمة التکسّب بالواجبات
ممّا یحرم التکسّب به: ما یجب علی الإنسان فعله عیناً، أو کفایةً، تعبّداً، أو توصّلاً علی المشهور، وعلیه الفتوی کما عن المسالک.
وفی الریاض بعد تقیید الوجوب بالذاتیّ، لإخراج التوصّلیّ، کأکثر الصناعات الواجبة: «بلا خلاف، بل علیه الإجماع فی کلام جماعة، و هو الحجّة».
وفی مفتاح الکرامة: «لم یعرف الخلاف إلاّ من علم الهدی» لکن قال: «حکی عن علم الهدی جواز الاُجرة علی مثل التکفین والدفن، لأ نّه واجب علی الولیّ ولا یجوز لغیره إلاّ بإذنه». انتهی. وعلیه لا یکون هو مخالفاً فی المسألة.
وکیف کان الظاهر من عنوان الفقهاء الأعمّ من التوصّلی والتعبّدی، ومن ذهابهم نصّاً أو ظاهراً إلی الجواز فی المستحبّات، أنّ موضوع البحث هو الواجبات، إمّا لأنّ وصف الوجوب ینافی الاکتساب کما صرّح به بعضهم ویأتی الکلام فیه، أو أنّ الأمر تعبّدی ثابت بالإجماع والشهرة، وأ مّا التعبّدیة فلا تنافی الاکتساب
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 257
عندهم، ولهذا قالوا بجوازه فی المستحبّات.
لکنّ المتأخرین عمّموا البحث فی التعبّدیات مطلقاً مستحبةً کانت أو واجبةً، وفی الواجبات توصّلیة أو تعبّدیة. فلا بدّ من البحث تارةً فی أنّ وصف التعبّدیة مناف للاکتساب أم لا، واُخری فی أنّ وصف الوجوب مناف له أم لا؟
حول قولهم: «تضاعف الوجوب یؤکد الإخلاص»
أ مّا الأوّل فقد یقال ـ مضافاً إلی عدم المنافاة ـ: إنّ تضاعف الوجوب یؤکّد الإخلاص. والقائل صاحب مفتاح الکرامة. وفی الجواهر قال فی مقام عدم المنافاة: إنّ المنافاة «واضح المنع، ضرورة کون الإجارة مؤکّدة له باعتبار تسبیبها الوجوب أیضاً».
وسبقهما إلی ذلک السیّد فی الریاض فی المستحبّات، قال فی مقام بیان عدم المنافاة: «إنّ غایتها هنا عدم ترتّب الثواب لا حرمته مع إمکان ترتّبه حینئذٍ أیضاً بعد إیقاع عقد الإجارة، فإنّها بعده تصیر واجبة وتصیر من قبیل ما وجبت بنذر وشبهه، ولا ریب فی استحقاق الثواب حینئذ. ووجهه أنّ أخذ الاُجرة حینئذٍ صار سبباً لوجوبها علیه ومعه یتحقّق الإخلاص فی العمل، لکونه حینئذٍ لمجرّد الإطاعة والامتثال للّٰه ـ تعالی ـ وإن صارت الاُجرة منشأ لتوجّه الأمر الإیجا بی إلیه»، ا نتهی.
والعجب منه ـ رحمه اللّٰه ـ حیث صرّح قبل ذلک بأسطر بأنّ أخذ الأجر فی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 258
الواجبات مناف للإخلاص. نعم بین کلامه وکلامهما فرق یتّضح عن قریب.
أقول: إنّ مراد الأوّلین من تأکّد الإخلاص وتضاعف الوجوب فی کلام الثانی یحتمل أحد الاُمور:
إمّا أنّ الأمر فی العبادی متعلّق بذات العبادة والأمر الإجاری أیضاً کذلک، لأنّ قوله: «أوفوا بالعقود» بمنزلة قوله: صلّ، وصم، واعمل کذا وکذا. فالأمر الإجاری یؤکّد الأمر العبادی، بل الأمر إذا تعلّق بموضوع عبادی یصیر عبادیّاً، إذ لیست العبادیّة من کیفیات الأمر بل هی من قیود المأمور به، فإذا تعلّق بموضوع کذلک یصیر عبادیّاً قهراً، ولمّا کان الموضوع واحداً یؤکّد أحد الأمرین الآخر، ولمّا کانا عبادیّاً یؤکَّد الإخلاص.
وإمّا أنّ المراد بتضاعف الوجوب وتأکّد الإخلاص،أنّ تعلّق الأمر الإجاری یوجب إمکان قصد الإخلاص به، فإنّه وإن کان توصّلیاً لکن مع قصد التقرّب یصیر عبادیّاً بالمعنی الأعمّ.
فالمکلّف قبل تعلّق الأمر الإجاری لا طریق له للإخلاص إلاّ قصد الأمر العبادی، وبتعلّقه زاد طریق آخر یمکن معه قصد الإخلاص، فلو نذر إتیانه زاد طریق آخر، وهکذ ا.
ولعلّ مراد صاحب الریاض هذا الوجه، إذ لم یعبّر بالتأکّد والتضاعف. لکنّ الأظهر أنّ مراده تبدیل الأمر الاستحبابیّ بعد الإجارة بالوجوبیّ، بمعنی سقوط ذلک وثبوت ذا بتوهّم وحدة متعلّقهما.
وإمّا أنّ المراد به أنّ متعلّق الأمر الإجاری والعبادی لمّا کانا متّحدین فی الخارج، فللعامل أن یقصدهما للّٰه ـ تعالی ـ ، فیکون الأمر بهذا المعنی مؤکّداً
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 259
للإخلاص وموجباً لزیادته بتعدّد سببه، ولعلّه أقرب إلی ظاهرالأوّلین.
ویرد علی الوجه الأوّل أنّ التأکید فی الأوامر ونحوها إنّما هو فیما إذا تعلّق أمر بموضوع لغایة وغرض، فإذا کان الموضوع مهتمّاً به مثلاً یؤکّده الأمر إمّا بألفاظ التأکید أو بتکرار الأمر، وأ مّا إذا کانت الأوامر بجهات عدیدة فلا تکون من التأکید فی شیء. وفی المقام یکون الأمر العبادی کالأمر بصلاة الفریضة إنّما تعلّق بها بجهة وغرض غیر جهة الأمر الإجاری. فلو فرض تعلّق الثانی أیضاً بذات العبادة لا یمکن أن یکون مؤکّداً للأوّل، إلاّ أن لا یراد بالتأکید معناه المعروف. مضافاً إلی أنّ الأمر الإجاری إنّما تعلّق بموضوع آخر هو الوفاء بالعقد، فقوله: «اوفوا بالعقود» موضوعه العقود ومتعلّقه الوفاء، والأمر الصلاتی تعلّق بالصلاة، ولا یعقل تجافی أحدهما عن متعلّقه إلی متعلّق الآخر.
نعم، إذا أوجد الصلاة وفاء بإجارته وقلنا بصحّة الاستیجار یکون مصداق الصلاة معنوناً بعنوانین: ذاتیّ هو الصلاة وعرضیّ هو الوفاء بالإجارة، وکذا فی النذر وإطاعة الوالد ونظائرهما.
وما کان هذا شأنه لا یمکن أن یکون مؤکِّداً، لأنّ موطن تعلّق الأوامر موطن اختلاف الموضوعات والمتعلّقات، وموطن اتحادها وهو الخارج لا یکون موطن تعلّقها.
فما یقال: إنّ الأمر الإجاری بمنزلة صلّ وصم وغیر ذلک، غیر تامّ وخلط بین موضوعات الأحکام ومتعلّقاتها، وبین مصادیقها غیر المأمور بها.
وبهذا ظهر الجواب عن الاحتمال الثانی، فإنّ مبناه أیضاً زعم تعلّق الأمر الإجاری بنفس الموضوعات العبادیة، ومع اختلاف المتعلّقات والموضوعات کما
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 260
عرفت لا معنی لقصد التقرّب بأمر متعلّق بموضوع أجنبیّ عن الآخر لتصحیح ذلک الأجنبی، وهو واضح.
بل یظهر النظر بما تقدّم فی الوجه الثالث أیضاً. فإنّ تعدّد الأوامر علی موضوعات مختلفة لا یوجب تأکّد الإخلاص فی أحد الموضوعات، بل علی الفرض یوجب تعدّده حسب تعدّدها.
هل توجد منافاة بین قصد التقرّب وأخذ الاُجرة للعمل أم لا؟
هذا کلّه مع ورود إشکال أساسیّ علی جمیع الوجوه، وهو أنّ الإشکال فی المقام إنّما هو دعوی المنافاة بین قصد التقرّب وأخذ الأجر للعمل، فلا یمکن للمؤجر الإتیان بالعمل المستأجر فیه، ومع عدمه لا تصحّ الإجارة، فلا أمر إجاری حینئذٍ حتّی یصحّح العبادیّة أو یؤکّد الإخلاص.
وبعبارة اُخری: إنّ تأکید الأمر الإجاری الإخلاص موقوف علی وجوده، وهو موقوف علی صحّة الإجارة، فلا یمکن تصحیحها بما ذکر.
وإن شئت قلت: إنّ صحّتها موقوفة علی قدرة المؤجر إیجاد العمل المورد للإجارة، وهو غیر ممکن، للتلازم بین أخذ الأجر وبطلان العمل العبادیّ، فلا بدّ من دفع هذه الغائلة، ومع عدم دفعها لا یمکن تعلّق أمر «أوفوا بالعقود» حتّی یقال: إنّه یؤکّده.
وقد تصدّی المحقّقون لدفعها بالداعی علی الداعی تارةً ویأتی الکلام فیه، وبالأمر الإجاری اُخری، وقد فصله السیّد الطباطبائی فی تعلیقته بما ملخّصه: «إنّه مع الغمض عن الوجه السابق یمکن أن یقال: إنّه إذا لم یکن قصد الامتثال بالنسبة إلی الأمر الأوّلی المتعلّق بالعبادة، لأنّ المفروض أنّ غرضه أخذ الاُجرة، فبعد إیقاع عقد الإجارة یمکن أن یکون داعیه امتثال الأمر الإجاری، ولا یضرّ توصّلیّته
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 261
لأنّ الأمر التوصّلیّ والتعبّدیّ لا یفترقان إلاّ فی المتعلّق، فمع عبادیّة المتعلّق یکون الأمر تعبّدیاً کما فی المقام.
ودعوی أنّ المعتبر قصد الأمر الصلاتی مدفوعة أوّلاً بالمنع، غایة الأمر یعتبر فیه کون الداعی هو اللّٰه من أیّ وجه کان، وثانیاً أنّ أمر «أوفوا بالعقود» فی قوّة قوله: صلّوا وصوموا... فالأمر الإجاری عین الأمر الصلاتی».
وقال فی ذیل تصحیح العبادات الاستیجاریة عن الغیر بعد تکرار الوجهین المتقدّمین:
«إن قلت: إنّ ذلک مستلزم للدور، فإنّ الوجوب من حیث الإجارة موقوف علی صحّتها، وهی موقوفة علی صحّة العمل الموقوفة علی الوجوب.
قلت ـ ثمّ حکی وجهاً عن الشیخ وقال ـ: وثانیاً وهو التحقیق فی الجواب: أنّ المعتبر فی متعلّق الإجارة لیس أزید من إمکان إیجاده فی الخارج فی زمان الفعل ، وفی المقام إنّ تعلّق الإجارة والأمر الإیجاری سبب فی هذا الإمکان. وبهذا أجبنا عن إشکال الدور فی التعبّدی، بناءً علی کون قصد القربة من قیود المکلّف به، بدعوی أنّ الأمر موقوف علی تحقّق الموضوع، والمفروض عدمه إلاّ بالأمر، حیث قلنا: لایعتبر فی صحّة توجّه الأمر إلاّ إمکان إیجاد الموضوع ولو کان الأمر هو السبب». انتهی.
وفیه ـ مضافاً إلی ما أشرنا إلیه من أنّ الأمر الإجاریّ متعلّق بعنوان الوفاء بالعقد، وهو أمر توصّلی، لعدم اعتبار العبادیّة فی متعلّقه، ولو قصد الامتثال به یتقرّب بعنوان امتثال أمر الوفاء بالعقد، ولا یعقل أن یکون مجرّد ذلک موجباً لامتثال الأمر الصلاتی أو مقرّباً لأجل أمرها، بل لو تعبّد بالأمر الإجاری من غیر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 262
التعبّد بالأمر الصلاتی لا یصیر مقرّباً مطلقاً، إذ لم یأت بمتعلّق الإجارة ولم یمتثل الأمر الإجاری أیضاً، ومجرّد اتّحاد العنوانین فی المصداق لا یوجب أن یصیر إیجاد أحد العنوانین بداعویّة أمره موجباً للتقرّب بعنوان آخر متحد معه ولو لم یکن مأتیاً به بداعویّة أمره أو بداع قربیّ آخر مربوط به.
ألا تری أ نّه لو أمر بإکرام العالم وأمر بإکرام الهاشمی، وکان الأمران تعبّدیین غیر ساقطین إلاّ بقصد التعبّد، فأکرم المکلّف من ینطبق علیه العنوانان بداعویّة أمر العالم مع عدم داعویّة أمر الهاشمی أصلاً، لا یعقل سقوط الأمرین وتقرّبه بعنوانین، لأنّ التقرّب بعبادة فرع إتیانها بداعویّة أمرها أو بجهة مقرّبة اُخری قائمة بها أو راجعة إلیها. ومجرّد اتّحاد العالم مع الهاشمی فی الخارج لا یوجب حصول التقرّب قهراً علی زعم الفاعل.
ومضافاً إلی ما أشرنا إلیه من عدم تعقّل تجاوز الأمر من عنوان «أوفوا بالعقود» إلی عنوان الصلاة والصوم ونحوهما، وکذا الحال فی النذر والیمین والعهد، فإنّ أوامرها لا تتعلّق إلاّبعنوان الوفاء بها، فلا یمکن أن ینحلّ قوله: «أوفوا بالعقود» إلی صلّ وصم وهکذا، ولا یکون فی قوّة ذلک إلاّ علی تأوّل ومسامحة وهو لایصحّح العبادیّة فلا وجه محصّل لتصحیحها بالأمر الإجاری ـ . أنّ الإشکال فی المقام لیس فی منافاة عقد الإجارة أو الأمر الإجاری للإخلاص، بل الإشکال فی منافاة العمل المأتی به بإزاء الاُجرة للإخلاص، ومع ذلک کیف یمکن له تسلیم مورد الإجارة وإیجاده؟ فلا یمکن معه تصحیح الإجارة، فلا تصل النوبة إلی الأمر الإجاری حتّی یبحث فی إمکان التقرّب به. فمع الغضّ عن رفع تلک الغائلة بالداعی علی الداعی أو نحوه لا یمکن تصحیحها.
ولیس الإشکال فی المقام نظیر الإشکال فی التعبّدی والتوصّلی، أی لیس الإشکال فی أنّ المکلّف عاجز عن العمل من قبل فقد الأمر حتّی یقال: إنّ القدرة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 263
معتبرة وقت العمل والأمرمحقِّقها.
بل الإشکال فی أنّ التنافی الواقعیّ الحاصل بین الإخلاص وأخذ الأجر فی مقابل العمل یوجب بطلان الإجارة، وهذا العجز الآتی من قبل التنافی الواقعی لایعقل رفعه بالأمر الإجاری، فالمقایسة بین البابین فی غیر محلّها.
ثمّ إنّ إشکال الدور وجوابه وإن کان راجعاً إلی باب النیابة لکن مناطه موجود فی المقام وسیأتی الکلام فی النیابة.
ثمّ إنّه یرد علی القائل بتصحیح العبادة بالأمر الإجاری أیضاً بأنّ مورد الإجارة علی المفروض هو الواجب العبادی، فالعبادیّة مأخوذة فی موضوع الإجارة وموردها، ومعنی العبادیّة، مع قطع النظر عن الوقوع مورد الإجارة، أن یکون المأتی به بداعویّة الأمر المتعلّق به، أو کونه للّٰه ـ تعالی ـ من غیر جهة تعلّق الإجارة وأمرها. والوفاء بهذا العقد لا یمکن أن یکون بإتیان الذات بقصد الأمر الإجاری، لأنّ المأتی به بقصده لم یکن متعلّق الإجارة حتّی یکون إیجاده کذلک وفاءً بالعقد ومتعلّقاً للأمربالوفاء.
وبالجملة لا بدّ من محفوظیّة عبادیّتها قبل تعلّق الإجارة ومع الغضّ عن أمرها، لکون العبادیة بما هی مأخوذة فی موضوعها، وفی مثله لا یمکن الوفاء بعقدها إلاّ مع الإتیان. بالعبادة بما هی عبادة بغیر الأمر الإجاری.
نعم، یمکن إیقاع الإجارة بما یقع عبادة من قبل الأمر الإجاری أو الأعمّ منه، لکنّه خروج عن موضوع البحث فی المقام.
طولیّة داعی الامتثال عن داعی أخذ الأجر
ثمّ إنّ المعروف فی جواب الإشکال عن المنافاة للإخلاص، طولیّة داعی الامتثال عن داعی أخذ الأجر فلا منافاة.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 264
وقد ردّ ذلک تارةً بمنع الطولیّة، واُخری بمنع إجدائها.
وخلاصة ما أفاده بعض أهل التحقیق فی منع الطولیّة: «أنّ مورد الإجارة هو ذات العمل العبادی فینحلّ إلی الذات وحیثیة الامتثال والعبادیّة، والمؤجر یأتی بالذات بداعی تحقّق المستأجر علیه وداعی الامتثال، فیکون من التشریک فی أصل الفعل، لا من قبیل غایة الغایة. والحاصل أنّ تحقّق عنوان المستأجر علیه یتوقّف علی حصول أمرین: ذات العبادة وعنوان الامتثال، والآتی بالذات إنّما یأتی بها بقصد تحقّق عنوان المستأجر علیه وقصد امتثال أمر اللّٰه، لیتحقّق کلاجزئین من المستأجر علیه، فیکون من قبیل التشریک فی القصد لا داعی الداعی». انتهی.
وفیه: أنّ مورد الإجارة هو العمل بداعی الامتثال، ومعناه أنّ جعل الأجر فی مقابل العمل المأتیّ به بداعویّة الامتثال، أی یکون الامتثال تمام الداعی والمحرّک له، فلو أتی به بداعیین: داعی الامتثال وداعی تحقّق عنوان المستأجر علیه، لم یکن آتیاً بمورد الإجارة والموضوع المستأجر علیه ولم یکن فعله وفاءً بعقد الإجارة، ومعه کیف یمکن التشریک فی مقام الوفاء مع کونه رافعاً له ومعدماً لموضوعه؟
وبعبارة اُخری: إنّ عقد الإجارة فی مثل المقام لا ینحلّ إلی عقدین و لا الإجارة إلی إجارتین، حتّی یقال: إنّ لذات العمل وفاء، أتی بها بداعی الامتثال أم لا؟ وللامتثال وفاء، بل وقعت الإجارة علی عمل خاصّ لا یمکن إیجاد موردها بلا تلک الخصوصیّة، وهی العمل الذی یتحقّق بمحرّکیّة أمره فقط، أو کونه للّٰه خالصاً، وفی مثله لا یمکن إیجاده بلا داع إلهیّ أو بِداع مشترک، فلا محیص فی مقام الوفاء إلاّ بإتیانه بداعی اللّٰه وإن کان هذا بداع آخر فی طوله، فالطولیّة مقتضی ذات تعلّق الإجارة بالعمل بداعی اللّٰه لا یمکن سلبها عنها. هذا هو
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 265
التحقیق فی الجواب.
وأ مّا ما یقال فی دفعه: إنّ ذات المقیّد والقید ملحوظان بالمعنی الحرفی فی مورد الإجارة لا بالمعنی الاسمی، فلا یکون شیء منهما مورداً للغایة وللإجارة.
فمع عدم وجاهته ـ ضرورة أنّ مورد الإجارة الصلاة المتقیّدة وهی ملحوظة استقلالاً وباللحاظ الاسمی ـ أنّ الأخذ حرفاً أو اسماً أجنبیّ عن دفع الإشکال فلا الاسمیّة فی اللحاظ مضرّ بالمقصود، ولا الحرفیّة دافع للإشکال علی فرض وروده .
ثمّ إنّ المحقّق المستشکل أورد إشکالاً آخرویظهر من بعض تعبیراته وتنظیراته أنّ إشکاله کبرویّ وفی عدم إجداء الداعی علی الداعی، ومن بعض تعبیراته أنّ إشکاله صغرویّ وفی عدم کون المقام من قبیل داعی الداعی، ویحتمل أن یکون مراده أنّ داعی الداعی مرجعه إلی التشریک ونقص العلّیة.
وکیف کان لا بدّ من تعرّض الاحتمالین أو الاحتمالات، وسیأتی ـ إن شاء اللّٰه ـ الکلام فی الکبری.
وحاصل ما أفاده فی منع الصغری: «أ نّه لیس المراد بقولنا: یجب إتیان الفعل بداعی الامتثال، الأعمّ من کون الامتثال بنفسه داعیاً أو باعتبار ما اکتنف به من العوارض، مثل کونه مستعقباً أو موجباً لأمر کذا، فإنّها عوارضه. وبعبارة اُخری: الأعمّ من أن یکون القرب والامتثال علّة تامّة أو ناقصة للفعل، بل لابدّ وأن یکون علّة تامّة، والمقام لیس کذلک، فإنّ الامتثال یصیر علّة ناقصة إذا کان الغرض منه حصول مایترتّب علیه، فإنّ علّیته من حیث ترتّب الأثر علیه، بحیث تنتفی بفرض انتفائه، وهو معنی نقص العلّیة، فإنّ معنی تمامها ترتّب المعلول علیه ولو فرض انتفاء کلّ موجود ووجود کلّ معدوم. والحاصل أنّ اعتبار خصوصیّة فی الغایة تنتفی غائیّتها بانتفائها ینافی علّیتها التامّة وتصیر ناقصة». انتهی مورد
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 266
الحاجة.
تصحیح الداعی علی الداعی
أقول: لا ینبغی الریب فی أنّ العلّة لأثر فی التکوین لا تمکن أن تکون ذات العلّة بقید ترتّب الأثر علیها، أو کونها مستعقبة أو موجبة للأثر، بحیث أن تکون العلّة مرکّبة من الذات وأحد العناوین والقیود المذکورة، للزوم تقدّم الشیء علی نفسه وکون الشیء من قیود علّة نفسه إن کان المراد الاستعقاب والإیجاب الواقعیین وبالحمل الشائع، وإن کان المراد بها العناوین فمضافاً إلی عدم إمکان تأثیرها وجزئیتها للأثر الوجودی یلزم منه أن یکون المتأخّر متقدّماً، لأنّ تلک العناوین بما أ نّها من المضایفات لا یمکن انتزاعها إلاّ بعد فعلیة العلّة ووجود المعلول، فتکون انتزاعها من العلّة والمعلول فی رتبة واحدة. ومقتضی دخالتها فی العلیة تقدّمها علی المعلول مضافاً إلی لزوم کون المتضایفات غیر متکافئات.
ثمّ بعد ما ثبت أنّ العلّة للمعلول نفس ذاتها بلا دخالة تلک القیود إذا فرض کون أثر غایة لإیجاد الفاعل علّته، فلا محالة یکون تصوّر الأثر والتصدیق بفائدته ولزوم تحقّقه منشأً لتحریک الفاعل نحو علّته ؛ لیس إلاّ لعدم إمکان داعویّة العلّة الغائیة إلی غیر ما یترتّب علیه إلاّ خطأً وغلطاً. فلا محالة إذا رأی الفاعل أنّ الأثر مترتّب علی الذات بلا قید یصیر منبعثاً إلیها فقط، وهو واضح.
فحینئذٍ نقول: إنّ الأجر، دنیویاً أو اُخرویاً إلـٰهیاً أو خلقیاً، إذا فرض ترتّبه علی عبادة بما هی عبادة، فلا محالة تکون العبادة بما هی عبادة، علّةً لترتّبه علیها لا بما أ نّها مستعقبة للأثر أو موجبة لها لما تقدّم محذور القیدیة.
فعلیه لا یمکن أن یصیر الأثر علّة غائیة لغیر العبادة بما هی التی هی تمام
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 267
العلّة للأثر الذی هو فائدة وجوداً و علة فاعلیة الفاعل ماهیّة وتصوّراً.
فالقول بکون الامتثال علّةً ناقصةً، إمّا لأجل أنّ تلک العناوین شریکة معه فی العلّیة فقد تقدّم استحالته، أو لأجل أنّ العلّة وإن کانت ذاته بذاته لکنّ الغایة تدعو إلی العلّة وغیر العلّة فقد اتضح امتناعه، فلا مناص عن أن تکون الغایة علّة للفعل بغایة الامتثال أی بمحرّکیته وداعویّته بلا دخالة شیء آخر، وهو المطلوب.
فإذا کانت الاُجرة بإزاء العمل بداعی الامتثال وکان الأجیر بصدد تسلیم مورد الإجارة لأخذ الاُجرة بإزاء المستأجر علیه فلا محالة ینقدح فی نفسه الداعی. إلی إیجاد العمل للّٰه وبباعثیة الأمر العبادی بلا تشریک فیه، لما عرفت من امتناعه.
وبما ذکرناه یظهر النظر فی الاحتمال الثالث فی کلامه.
ثمّ إنّ ما ذکره فی معنی العلّیة التامّة صحیح، لکن لا یراد بذلک إلاّ أ نّها بذاتها بلا ضمّ ضمیمة اُخری وشریک فی العلّیة علّةٌ ومؤثّر، لا أ نّها علّة حتّی مع عدم علّة نفسها. إذ مع عدمها تعدم. نعم لو فرض محالاً وجودها بلا علّة تکون مؤثّرة وموجدة للمعلول، وفی المقام انتفاء الداعی الأعلی یوجب انتفاء ذات الداعی المعلولة له لا انتفاء شریکها مع بقاء ذاتها.
إن قلت: قد قرّر فی محلّه أنّ الجهات التعلیلیّة ترجع إلی الجهات التقییدیّة وأنّ الغایات عناوین الموضوعات، ولذا کان التحقیق بناءً علی وجوب المقدمة وجوب الموصلة منها، بمعنی أنّ الواجب هو الموصل بما هو موصل، لأنّ الإیصال إلی ذی المقدّمة غایة و جهة تعلیلیّة، فترجع إلی الجهة التقییدیّة، فتتعلّق الإرادة بالموصلة بعنوانها من دون دخالة شیء آخر. ففی المقام لمّا کان أخذ الأجر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 268
غایة، لابدّ وأن یکون عنواناً للموضوع وحیثیّة تقییدیّة له، فلا محالة یکون تمام الداعی لإیجاد الفعل أخذ الأجر، فیمحّض الفعل فی غیر اللّٰه، ولا شرکة لأمر اللّٰه وداعی اللّٰه فیه رأساً.
قلت: هذه مغالطة نشأت من مقایسة إرادة الفاعل ومقدّماتها علی إرادة الآمر والمشرِّع، أو قیاس إرادة الفاعل ومقدّماتها علی حکم العقل علی الموضوعات العقلیّة، وهو قیاس باطل ومع الفارق:
فإنّ حکم العقل وکذا إرادة المشرّع المنکشفة بها موضوعها العناوین، فإذا أدرک العقل الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة والمقدّمة الموصلة یکشف حکم الآمر علی هذا العنوان، أی الموصل، لأنّ الغایات فی الأحکام العقلیّة موضوع بحسب الواقع، والجهات التعلیلیّة ترجع إلی التقییدیّة. وبالجملة یکشف العقل بإدراک الملازمة وجوباً شرعیّاً علی عنوان الموصل. وهذا وجوب شرعی مستکشف بالعقل بناءً علی الملازمة.
وأ مّا الفاعل فلم یتعلّق إرادته علی العناوین والطبائع الکلّیة فی إیجاد الأمر الخارجی، ولو تعلّقت أحیاناً بها لایکفی تعلّقها بها للإیجاد المساوق للتشخّص، فلا محالة تنشأ من إرادته المتعلّقة بالطبائع إرادة متعلّقة بما یرید بمبادئها بتوسط بعض الصور الموجودة فی الذهن، فإذا اعتقد أنّ الأثر الکذائی المطلوب مترتّب علی وجود کذا فلا محالة یصیر تصوّر تلک الغایة مع سائر المبادئ باعثاً له نحو العلّة، أی الذات التی یترتّب علیها الأثر بنفسها لا بقید وعنوان، فإنّ المفروض أنّ العلّة هی الذات لا شیء آخر، فلا محالة ینبعث نحوها، فتصوّر العطشان أنّ رفع العطش مترتّب علی شرب الماء بلا ضم ضمیمة، وتصدیقه به، یبعثه مع سائر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 269
المبادئ إلی ذات شربه بلا ضم ضمیمة أجنبیّة عن التأثیر، وهو واضح.
وقد مرّ أنّ المؤثّر فی المعلول ذات العلّة، ولا یعقل أن تکون العلّة ذاتها المتقیّدة بترتّب الأثر علیه.
ففی المقام یکون ما قابل الأجر الصلاة بداعی أمر اللّٰه ـ تعالی ـ ، فلا محالة یکون الأجر داعیاً ومحرکاً إلی ذات الصلاة بداعی اللّٰه ـ تعالی ـ من غیر إمکان دخالة الأجر واشتراکه مع داعی اللّٰه فی إتیانها، للزوم تأخّر المتقدّم وتقدّم المتأخّر بالذات.
وإن شئت قلت: إنّ تصوّر أخذ الأجر علّة فاعلیة الفاعل بسائر المبادئ. لإیجاد الصلاة بداعویّة أمرها، والصلاة بداعویّة أمرها یترتّب علیها الأجر، فلا یعقل تجافی علّة فاعلیّة الفاعل عن مقام علّیتها وتقدّمها ووقوعها فی رتبة داعویّة أمر الصلاة لإیجادها.
والإنصاف أنّ القول بالتشریک أو التمحّض فی غیر اللّٰه ـ تعالی ـ بالبیان المتقدّم غیر وجیه، بل دعوی أمر غیر معقول کما مرّ.
إشکال آخر راجع إلی مرحلة الامتثال
ثمّ إنّه علی تسلیم الداعی علی الداعی أوردوا علیه بعدم إجدائه فی وقوع الفعل امتثالاً وقربیاً، حتّی قال بعض الأعاظم: إنّه لو کان هذا إشکالاً لکان أولی وأحقّ من أن یکون جواباً.
وحاصل دعواهم: أنّ الامتثال والتقرّب متوقّفان علی وقوع جمیع الدواعی الطولیّة والعرضیّة إلهیّة، ومع کون بعض ما فی السلسلة غیرإلهی لا یقع الفعل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 270
عبادة، وفرّقوا بین الغایات المترتّبة علی الأفعال بجعل إلهی وغیرها بأنّ ما کان بجعله ـ تعالی ـ یرجع إلیه ولم یضرّ بقربیته دون ما کان لغایة غیر اللّٰه ـ تعالی ـ.
وبالجملة بعد تسالمهم علی صحّة العمل إذا کان الامتثال للطمع فی أجر اللّٰه والخوف من عقابه استشکلوا فی الغایات المتوقّعة من غیره ـ تعالی ـ.
أقول: قبل الورود فی الجواب لا بدّ من التنبیه علی أمر:
وهو أنّ فی المقام قد یکون الداعی إلی امتثال أمر اللّٰه تامّاً مستقلاً فی نفسه، بحیث ینبعث المکلّف منه سواء کان فی مقابله أجر أم لا .
وقد یکون الداعی إلیه مفقوداً، بحیث لولا الأجر لما کان آتیاً بالفریضة.
وقد یکون الداعی إلیه ناقصاً وضعیفاً لا یصلح للبعث ویتمّ بالأجر .
وکذا الداعی إلی أخذ الأجر قد یکون مستقلاً تاماً، وقد یکون ضعیفاً ناقصاً أو مفقوداً .
فتصویر الداعی علی الداعی یأتی فی بعض الصور لا جمیعها، ومع رفع الإشکال عمّا هی أسوأ حالاً من الجمیع یتمّ المطلوب، وهی الصورة التی لا داعی للفاعل أصلاً لإتیان الفریضة، وإنّما یتحقّق داعیه بواسطة الاُجرة، بمعنی أنّ الفاعل لا یهتمّ بأمر الشارع ـ والعیاذ باللّٰه ـ ، لکن یهتمّ بعقوده وعهوده لمروءته.
ثمّ لو فرض بقاء الإشکال فی هذه الصورة لا یلزم منه الحکم ببطلان جمیع الصور المتقدّمة، ضرورة أنّ من لا ینبعث بالأمر الإجاری ولا یکون الأجر أیضاً داعیاً له ولو بنحو ضعیف لا یقاس فی البطلان بمورد الداعی علی الداعی. فلو فرض أنّ الفاعل لا یؤثّر فی نفسه الاُجرة رأساً ویأتی بمورد الإجارة لداعویّة الصلاة فقط لا وجه للحکم ببطلانها، سواء قلنا بصحّة الداعی علی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 271
الداعی أم لا. بل لو کان الداعیان مستقلّین، أو داعی الصلاة مستقلاً وداعی الأجر ضعیفاً، یمکن القول بالصحّة ولو قلنا ببطلان ما یأتی بالداعی علی الداعی، لأ نّه من قبیل الضمیمة المباحة، کما نسب القول بالصحة فی مثلها إلی کاشف الغطاء إذا کان الداعیان مستقلّین، ومال إلیه شیخنا العلاّمة ـ أعلی اللّٰه مقامه ـ. والأولی بالصحّة فرض ضعف الداعی غیر الإلهی، وإن کان الفرضان لا یخلو من إشکال سیّما الأوّل منهما.
التحقیق فی المقام والجواب عن الإشکال
وکیف کان لو فرض فی المقام عدم الداعی الإلهی رأساً فی نفسه، ودعاه إلی العمل بداعی اللّٰه الاُجرة، فهل الداعی علی الداعی یوجب صحّته، أم یعتبر فیها أن یکون جمیع الدواعی الطولیّة والعرضیّة إلهیّة؟
وإن شئت قلت: لا شبهة فی أنّ الأمر بنفسه فی شیء من الموارد لا یکون محرّکاً وباعثاً تکوینیاً نحو العمل، بل هو إنشاء البعث الاعتباری، فإنّ هیئة الأمر وضعت لإیقاع البعث نحو المادّة، وأ مّا علّیتها تکویناً للانبعاث فغیر معقول وإلاّ لزم عدم تفکیک العمل عن الأمر وهو کما تری.
بل تصوّر الأمر أیضاً لیس محرکاً ما لم یکن فی نفسه مبادئ اُخر کالخوف والطمع والحبّ والمعرفة .
فحینئذ یقع الکلام فی أنّ المعتبر فی العبادة أن تکون المبادئ الموجودة فی النفس الباعثة لإیجاد متعلّق الأمر امتثالاً له ـ تعالی ـ کلّها مربوطة به ـ تعالی ـ ، فیکون خوفه من اللّٰه ورجاؤه إلیه وطمعه فی إعطائه ـ تعالی ـ باعثاً لإطاعته
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 272
ومحرکاً له.
أم لا یعتبر فیها إلاّ کون العمل للّٰه ـ تعالی ـ خالصاً بلا شرکة شیء معه، فإذا صار شیء دنیوی سبباً لإیجاد عمل للّٰه ـ تعالی ـ ، ولا یکون فی إتیان الفعل بداعی اللّٰه شریکاً وإن کان الإتیان بداعی اللّٰه معلولاً لداعی غیر اللّٰه، یقع الفعل عبادة؟
التحقیق هو الثانی: لأنّ الامتثال والإطاعة عقلاً لیس غیر إتیان المأمور به حسب دعوة الأمر ولأجل موافقته، کان الباعث الأقص علیه ما کان وکون نفس الأمر محرکاً بلا غایة اُخری ومبادئ اُخر محال، لأنّ کل فعل اختیاری لابدّ له من مبادئ، کالتصوّر والتصدیق بالفا ئدة وإدراک لزوم إیجاده واصطفائه وإرادته، والأمربما هو لیس محرکاً تکویناً ولا مترتباً علیه بما هو فائدة. ولو فرض فی مورد ترتّبها علیه یکون مبدأ المحرّک والغایة الباعثة هی تلک الفائدة، لا نفس أمر الأمر بما هو، فلابدّ فی تحرّک المکلّف حسب دعوة الأمر من غایة، وتلک الغایة لا یعقل أن تحرّک العبد إلاّ نحو امتثال الأمر وإطاعة المولی، فتحقّق الامتثال والطاعة ممّا لابدّ منه، وإلاّ لتخلّفت المتحرکیّة عن المحرکیّة والمعلول عن العلّة. ولا یعتبر فی العبادة عقلاً إلاّ وقوع الفعل امتثالاً وإطاعة للّٰه ـ تعالی ـ ، وکان تحرّک العبد حسب دعوة أمره بلا شرکة شیء آخر فی هذه الرتبة.
وبالجملة إذا کان الإتیان للامتثال والإطاعة محضاً وبلا دخالة شیء فیه یصیر العمل عبادة، لأنّ العبادة إطاعة المولی وحرکة العبد علی طبق أمره، کانت الغایة لها ما کانت.
وقد عرفت بما لا مزید علیه امتناع اشتراک الغایات فی ترتب الآثار علی ذی الغایات، بل هی علّة العلّة لا لشریکتها.
والشاهد علی عدم اعتبار شیء آخرفی صیرورة الفعل قربیاً وعبادیاً ـ مضافاً
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 273
إلی ما ذکر ـ الأدلة المرغّبة فی العبادات بالوعد علی ترتّب آثار اُخرویة أو دنیویّة علیها، وتسالمهم علی صحّة العبادة إذا کان الإتیان والإطاعة بطمع الجنّة أو لخوف النار بل بطمع سعة الرزق ونحوها»، مع أنّ کل ذلک خارجة عن الإلهیّة، والغایات المذکورة غیر اللّٰه ـ تعالی ـ .
ما معنی الإخلاص الحقیقی وهل یعتبر فی العبادة الخلوص التامّ أم لا؟
وما یقال: إنّ طمع الأجر إن کان من اللّٰه، والخوف إن کان من عذاب اللّٰه فهو غیر مضرّ بالإخلاص، دون ما کان الإتیان لطمع فی غیر اللّٰه ـ تعالی ـ کحطام الدنیا ومنها الاُجرة.
غیر وجیه، لأنّ الداعی لیس عبارة عمّا یخطر فی الذهن، بل عبارة عن الغایة المحرّکة حقیقة، ولا ینبغی الریب فی أنّ المحرّک فی تلک العبادات المأتی بها طمعاً وخوفاً هو نفس متعلّقات الإضافات وحاصل المصادر والنتائج من غیر أدنی دخالة للإضافات وحیث الصدور من فاعل خاصّ. ولهذا صارت محرّکات مع فرض سقوط الإضافة إلی اللّٰه بل مع الإضافة إلی عدوّ اللّٰه ـ تعالی ـ .
توضیح ذلک: أنّ إعطاء اللّٰه ـ تعالی ـ الحور العین بإزاء عبادة ینحلّ إلی حصول الحور، والإعطاء، وإضافته إلیه ـ تعالی ـ ، والمحرّک للفاعل الذی طمعه ترتّب تلک الفائدة علی عمله لا یخلو إمّا أن یکون نفس حصول الحور العین له استقلالاً من غیر دخالة إضافة اللّٰه ـ تعالی ـ ، والإعطاء أی المعنی المصدری، أو نفس الإضافة إلیه ـ تعالی ـ فقط من غیر دخالة للمضاف إلیه والمعنی المصدری، أو نفس المعنی المصدری بلا دخالة غیره، أو یکون محرّکه مرکباً من الحور
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 274
والإضافة إلیه ـ تعالی ـ بمعنی أنّ المضاف بما هو مضاف أو الإضافة الخاصّة علّة، إلی غیر ذلک من أنحاء الترکیب الثنائی أو الثلاثی.
ففی غیر مورد واحد، وهو کون تمام العلّة الإضافة إلی اللّٰه ـ تعالی ـ بحیث لایکون نظر الفاعل إلی المتعلّق إلاّ کونه کرامة اللّٰه ـ تعالی ـ ویکون تمام المحرّک حیث الانتساب إلیه ـ جلّ وعلا ـ ، یکون لغیر اللّٰه دخالة فی التحریک والإیجاد، إمّا بنحو تمام العلّة، أو بنحو الاشتراک والجزئیة. هذا بحسب التصوّر.
وأ مّا بحسب الواقع فلا یمکن حصول تلک المرتبة الرفیعة إلاّ لخلّص أولیاء اللّٰه تعالی والمحبّین المجذوبین له ـ تعالی ـ ، بحیث کان تمام نظرهم إلیه لا إلی غیره، وکان ما وراءه ـ تعالی ـ من الجنّة وغیرها مغفولاً عنها، وهم غافلون عن غیر اللّٰه ویشتغلون به عن غیره ـ صلّی اللّٰه علیهم ـ .
وأ مّا غیرهم من متعارف الناس فلا یکون محرّکهم إلاّ النتائج ومتعلّقات الإضافات، ولهذا لو فرض اعتقادهم بترتّب تلک الآثار المطلوبة علی أفعالهم من غیر توسیط فاعل ومن غیر ربط أو إضافة إلی أحد لأوجدوها طمعاً للآثار وحرصاً علی الشهوات والمستلذّات.
فلو فرضنا أنّ مفاتیح الجنّة والنار بید عدوّ اللّٰه الشیطان الرجیم ـ والعیاذ باللّٰه ـ ، وکان هو معطی الجنّة ومُدخل النار، وکانت طاعة اللّٰه ـ تعالی ـ وعصیانه بلا جزاء أصلاً، لکنّه ـ تعالی ـ أمرأن یعبدوه بلا جزاء وأن لا یعصوه بلا عقاب علی عصیانه، وأمر بمخالفة الشیطان ونهی عن طاعته، وکان الشیطان أمر بمخالفة اللّٰه ـ تعالی ـ ونهی عن طاعته، وأعطی للمخالفین له ـ تعالی ـ الجنة وأدخل المطیعین له ـ تعالی ـ النار، لعلم أولوالألباب أنّ المطیع للّٰه ـ تعالی ـ علی الفرض کالکبریت الأحمر أو أندر منه.
ولعمری أنّ هذا واضح لمن تأ مّل فی غایات أفعاله وتدبّر فی حالات نفسه
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 275
ومکائدها، ولیس هذا معنی دقیقاً عرفانیاً خارجاً عن فهم الناس، بل شیء یعرفونه مع التنبیه علی المحرک الأصلی فی الأعمال وتمیّزه عن غیره.
فالإضافة إلیه ـ تعالی ـ إمّا ساقطة رأساً وکان المحرّک التامّ هو رجاء الوصول إلی المشتهیات النفسانیة والنیل إلی الشهوات والأهواء، أو الخوف من التبعات والعذاب، کما أنّ الأمر کذلک بحسب النوع.
أو لها نحو دخالة ضعیفة أو قویّة علی حسب مدارج العاملین، وهو مقام المتوسّطین.
وأ مّا الخلوص التامّ فلا یناله إلاّ کمّل الأولیاء، بل لا یصدقه إلاّ الأوحدی من الناس ـ جعلنا اللّٰه منهم، وعصمنا اللّٰه من إنکار مقامات أولیائه علیهم صلواته ـ .
وإلی ما أشرنا إلیه [یشیر] ما ورد عن المعصومین ـ علیهم السلام ـ من تقسیم العبادة تارة إلی عبادة الأجیر، وعبادة العبید، وعبادة الأحرار، واُخری إلی عبادة الحُرصاء وهوالطمع، والعبید، والأحرار.
إذ من المعلوم أنّ الأجیر لا یکون مطمح نظره فی العمل إلاّ النیل بالأجر ویکون عمله خالصاً لأجل الاُجرة من غیر دخالة الإضافات، والحریص یرغب إلی المال من أیّ طریق حصل ولا دخالة فی إخماد نار حرصه للإضافات.
ومن کان ناظراً إلی إضافة اللّٰه وإلی کرامة المولی لا إلی متعلّقاتها فهو لیس من الاُجراء ولا الحرصاء، بل هو من العرفاء باللّٰه والمخلصین من أولیائه ـ تعالی ـ . فتحصّل من جمیع ذلک صحّة صلاة الخائف والطامع، وهی دلیل علی أنّ العبرة فی الصحّة لیست إلاّ إطاعة أمر اللّٰه ـ تعالی ـ بلا تشریک غیره فیها، ولا ینظر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 276
إلی غایات محرّکة للطاعة والعبادة.
وإن شئت قلت: إنّه بعد ما کان الداعی لیس عبارة عن الخطور بل هو المحرّک، وبعد ما کان المحرّک التامّ وعلّة فاعلیّة الفاعل بحسب متن الواقع هو الخوف من العذاب أو الطمع إلی المشتهیات بلا دخالة شیء آخر فیه وإنّما یقال: أفعل کذا لأن یدخلنی اللّٰه الجنّة أو لخوف الدخول فی نار اللّٰه، لمجرّد کون المورد کذلک، وأنّ الجنة و النار بید اللّٰه وتحت قدرته، لا لأنّ العلّة للإیجاد الجنّة مع تلک الإضافة أو نفس الإضافة، وهو نظیر أن یقال: إنّ الشمس فی الفلک الرابع مشرقة والنار فی جهنّم محرقة، حیث لا یراد نفی علّیة الشمس والنار بذاتهما، بل بیان للمورد والواقعة، فإذا کان الأمر بحسب الواقع فی متعارف الناس والمکلّفین کذلک لا یعقل أمرهم بما هو خارج عن تحت قدرتهم، ضرورة أنّ حصول الخلوص التامّ طولاً وعرضاً لا یمکن لمتعارف الناس ؛ بل ولا لخواصّهم إلاّ من عصمه اللّٰه ـ تعالی ـ .
فلو کان الإخلاص التامّ معتبراً لسقط التکلیف عن عامّة الناس، لعجزهم عنه.
مع أ نّه لو کان الامتثال والعبادیة لا یحصل إلاّ بالخلوص الکذائی کان علی اللّٰه ـ تعالی ـ وأولیائه ـ علیهم السلام ـ بیانه وإرشاد الناس إلیه وتکلیفهم به، لا الترغیب فیما یضادّه وینافیه.
مضافاً إلی أنّ فی الآیات والروایات ما تدلّ علی أنّ للأعمال الحسنة آثاراً ولوازم فی النشأة الآخرة، کظاهر قوله تعالی: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ...».
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 277
وقد ورد حدیث عن أمیر المؤمنین ـ علیه السّلام ـ: أنّ هذه الآیة أحکم آیة فی کتاب اللّٰه فعلیه یکون ظاهرها مراداً بلا تأوّل. والظاهر منها أنّ عمل الخیر بنفسه مورد الرؤیة.
ویؤکده قوله: «یُومَئِذٍ یَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِیُرَوا أَعْمالَهُمْ».
فیظهر منها أنّ الأعمال نفسها متجسّدة مرئیّة فیها والناس ملتذّ بها.
فلو فرض أنّ الآتی بالصلاة للّٰه ـ تعالی ـ والمجیب لدعوة أقم الصلاة إنّما یأتی بها ویطیعه ـ تعالی ـ طمعاً للوصول إلی الصورة البهیّة اللازمة لعمله، فهل یمکن أن یقال: عمله باطل، أو یقال: للجنة خصوصیة؟
فلو قیل: إنّ أمثال ذلک خارج بدلیل.
قلنا: مرجع هذا إلی عدم اعتبار الخلوص فیها، وأنّ تلک الأفعال لیست بعبادة، وهو خلاف الضرورة، فإنّ الإجماع بل الضرورة علی اعتبار الخلوص فی العبادات وقصد غیر اللّٰه مضرّ بها، فیکشف منهما وممّا ذکرناه عقلاً ونقلاً أ نّه لایعتبر فی العبادیة إلاّ الخلوص فی نفس العمل، أی کونه امتثالاً له ـ تعالی ـ من غیر تشریک فی هذه الرتبة ولا ینظر إلی مبادئ التحریک.
ویؤیّد ما ذکرناه بل یدلّ علیه إطلاق أدلة الأمر بالمعروف فإنّ المعروف إن کان من العبادات، والمکلّف التارک کان غیر منبعث عن أمر اللّٰه ـ تعالی ـ فأمره والده أو من یحتشم منه أو من یحبّه ولا یرضی بمخالفته واقعاً، فأتی بالتکلیف الإلهی وامتثل أمر اللّٰه إطاعة لوالده أو غیره، لابدّ وأن تقع صحیحة، وإلاّ لزم أن
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 278
یکون الأمر بالمعروف مُعدماً لموضوعه، بل موجباً لانقلابه بالمنکر، فإنّ إتیان العمل العبادی لغیر اللّٰه من المنکرات. ولیس المراد بالأمر بالمعروف الموعظة الحسنة، بل المراد به وما هو الواجب الأمرالمولوی لغرض البعث به، ولهذا لایجب إذا لم یحتمل التأثیر، فإنّ معه لا یمکن الأمر حقیقة.
وبالجملة لا شبهة فی وجوب الأمر بالمعروف، فلابدّ وأن یکون الانبعاث ببعث الآمر فی طول الإتیان بالعمل عبادة وإطاعة للّٰه ـ تعالی ـ غیر مضرّ بالعبادیة، وهو المقصود.
ویؤیّد عدم مضرّیة وقوع الشیء طاعة وامتثالاً مع عدم رجوع جمیع السلسلة إلی المطاع أمر اللّٰه ـ تعالی ـ بإطاعة رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم واُولی الأمر ـ علیهم السلام ـ ، فلو خرج المأتی به بواسطة کون الغایة إطاعة أمر اللّٰه ـ تعالی ـ عن طاعة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واُولی الأمر ـ علیهم السلام ـ لزم امتناع تعلّق الأمر بها لکونه معدماً لموضوعه.
ولیس المراد بإطاعتهم أخذ الأحکام منهم أو العمل بالأحکام الشرعیّة الإلهیّة التی کانوا مبیّنین لها، لأنّ کلّ ذلک لیس إطاعة لهم، بل المراد إطاعة أوامرهم السلطانیة الصادرة منهم بما هم حکّام وسلاطین، کالأمر بالغزو والجهاد وغیرهما من شؤون السلطنة، کما فصّلناه فی رسالة «لا ضرر».
وبالجملة فالقائل ببطلان العبادة فی الموارد المذکورة ومنها مورد البحث:
إمّا أن یقول بعدم صدق الطاعة فی تلک الموارد فیردّه العقل والنقل.
وإمّا أن یدّعی مع صدقها عدم صدق العبادة، فیردّه أیضاً العقل والنقل. فإنّ إطاعة أمر اللّٰه ـ تعالی ـ وامتثاله خالصاً بمعنیٰ عدم التشریک فی إتیان العمل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 279
وعدم کونه لغیر اللّٰه ولو بنحو جزء العلّة عبادة له ـ تعالی ـ .
وإمّا أن یقول باعتبار شیء زائد فی حصول التقرّب وسقوط الأمر العبادی، فهو مع بطلانه خلاف الفرض والمبحوث عنه فی المورد.
إشکال العلاّمة الشیرازی فی المقام والجواب عنه
وممّا ذکرناه یظهر النظر فی کلام المحقّق التقی فی تعلیقته، من التشبّث بحکم العرف والعقلاء بأ نّهم لا یشکّون فی أ نّه إذا جعل زید اُجرة لعمرو فی إطاعة شخص فأطاعه طلباً للجعل لا یستحق من هذا الثالث مدحاً ولا ثواباً. وکذا لو أمر المولی عبده بخدمة ثالث فأطاع العبد أوامره امتثالاً لأمر المولی أ نّه لا یعدّ مطیعاً له ولا یستحق منه أجراً ومدحاً، مع أنّ إطاعة هذا الثالث لحصول إطاعة المولی، فإطاعته غایة لفعله وإطاعة المولی غایة لهذه الغایة. انتهی.
وفیه ـ بعد الغضّ عن مسامحته فی التعبیر وجعل إطاعة المولی غایة لغایة، وقد مرّ معنی الداعی علی الداعی والمقصود منه ویأتی الإشارة إلیه ـ أنّ الاعتراف بمأجوریة العبد عند مولاه فی إطاعة الثالث وباستحقاقه للجعل علی الجاعل فی المثال الأوّل ملازم للاعتراف بحصول الامتثال والإطاعة للثالث، ضرورة أنّ الجعل فی مقابل طاعته وامتثال المولی لا یحصل إلاّ بإطاعة الثالث. فلو توقّف صدق الطاعة علی کون جمیع المبادئ طولاً وعرضاً راجعاً إلی المطاع لما یمکن صدق الطاعة فی المثالین، فلا یمکن استحقاق الأجر والثواب من الجاعل والمولی، فمع صدقها یسقط أمر الثالث بلا ریب ولو کان الامتثال والإطاعة معتبرة فیه.
ولیس الإطاعة فی الأوامر العقلائیة مخالفة لها فی الأوامرالإلهیة، فکما تحصل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 280
فی مورد المثالین تحصل فی أمره ـ تعالی ـ بلا افتراق من هذه الجهة بینهما، وکما یسقط أمر الثالث فی موردهما تسقط أوامر اللّٰه فی نظائر الموردین.
واستحقاق الأجر والثواب وحصول القرب لیس شیء منها معتبراً فی وقوع العمل عبادة. ولهذا أنکر طائفة من المتکلّمین والفقهاء استحقاقهما فی إطاعة أوامر اللّٰه ـ تعالی ـ ولا یحصل العلم بالقرب الفعلی فی العبادات.
وببالی أنّ المحقّق القمی ـ رحمه اللّٰه ـ قال فی موضع من القوانین: إنّ عباداتنا لم یحصل بها القرب بل لعلّهاموجبة للبعد، ومع ذلک لاینکرون صحّتها وسقوط الأمر بها.
وتدلّ علی عدم الملازمة بین الصحّة وحصول القرب واستحقاق الثواب روایات مستفیضة دالّة علی أنّ المقبول من الصلاة ما یؤتی بها بإقبال القلب وإنّما یصعد منها ما کان کذلک.
فلا یعتبر فی صحّة العبادة غیر ما تقدّم.
ولیس الکلام فی المقام فی الریاء، ولعلّ فیه بحسب الأخبار تضییق لیس فی غیره من الاُمور المباحة.
إشکال المحقّق الإیروانی علی المراد من الداعی علی الداعی والجواب عنه
وبما مرّ من المراد من الداعی علی الداعی یظهر سقوط قول بعض الأفاضل، حیث قال: «والحقّ بطلان الداعی علی الداعی وإن بنی معظم
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 281
أساتیدنا تصحیح أخذ الأجر فی العبادات علی أساسه. وأنت لو تأ مّلت علمت أنّ الداعی أعنی المحرّک الباعث إلی العمل لا یعقل فی غیر الأفعال الاختیاریة. ودعوة الأمر لیست فعلاً من أفعال المکلّف فضلاً عن أن یکون اختیاریاً، ومع ذلک کیف یعقل أن یدعو أمر إلی أن یکون أمرآخر داعیاً؟ وهل الداعی یکون عن داع مع أ نّه یلزم التسلسل فی الدواعی؟» انتهی.
وأنت خبیر بأنّ حکمه ببطلان ما ذهب إلیه معظم الأساتید ناش من قلة التدبّر فی مرادهم وعدم تحصیل مغزی مرامهم، فتوهّم تارةً أنّ مرادهم أنّ أمراً من الأوامر صار موجباً لدعوة أمرآخر مع أنّ دعوته لیست فعلاً من المکلّف، واُخری أنّ لازم کلامهم أنّ الداعی بالداعی وهو موجب للتسلسل، مع أنّ مرادهم بمعزل عمّا فهم، بل المراد ما أشرنا إلیه من أنّ الأمر یدعو إلی المتعلّق إنشاءً وإیقاعاً، ولیس علّة لتحرّک العبد بذاته، بل بعد تحقّق بعض المبادئ کالخوف والرجاء وغیرهما فی النفس صارت تلک المبادئ ومبادئ اُخر موجبة لتحرّک العبد حسب دعوة الأمر وتحریکه الإیقاعی وإطاعته لمولاه. وهذه المبادئ فی طول إتیان العمل بداعویّة الأمر، فأین ذلک من کلامه من لزومه للتسلسل أو کون شیء موجباً لدعوة الأمر؟ بل قلّما یتّفق إتیان فعل لا بداعی الداعی .
ثمّ لو شککنا فی اعتبار الإخلاص فی العمل زائداً عن الإخلاص العرضی فمقتضی الإطلاق فیما تمّت مقدماته والإطلاق المقامی فی بعض الأحیان عدم اعتباره، ومع فقده فأصالة البراءة العقلیة ومثل دلیل الرفع تکون مرجعاً.
هذا کلّه فیما قیل أو یقال فی منافاة التعبدیّة وأخذ الأجر.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 282
مقالة الشیخ فی منافاة وصف الوجوب لأخذ الاُجرة
وأ مّا منافاة وصف الوجوب له، وهو الذی کان مورد نظر الفقهاء، فقد استدلّوا علیه باُمور . ونحن نفرض المقام فیما إذا کان الواجب عینیّاً تعیینیّاً ثمّ نشیر إلی سائر الأقسام.
فمنها: ما أفاده العلاّمة الأنصاری ـ قده ـ ، قال: «فإن کان العمل واجباً عینیاً تعیینیاً لم یجز أخذ الاُجرة، لأنّ أخذ الاُجرة علیه مع کونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع علی فعله أکل للمال بالباطل، لأنّ عمله هذا لا یکون محترماً، لأنّ استیفاءه منه لا یتوقّف علی طیب نفسه لأ نّه یقهر علیه مع عدم طیب النفس والامتناع» انتهی.
وأنت خبیر بأنّ دلیله الذی انتهی إلیه بعد قوله: لأنّ ولأنّ، أخصّ من المدّعی، فإنّ مدّعاه عدم جواز أخذها فی مطلق الواجبات الکذائیة، ودلیله علی عدم احترام عمله جواز استیفائه منه بلا توقف علی طیب نفسه وقهراً علیه بدلیل الأمر بالمعروف، مع أنّ دلیل الأمر بالمعروف لا تکفی فی مطلق الموارد، کما لو کان الواجب موسّعاً سیّما مثل قضاء الفوائت وبعض صلوات الآیات، فلا یمکن الاستیفاء بلا طیب نفسه ولا یجوز إلزامه بإتیانه فلابدّ فی استیفاء المنفعة المطلوبة من عقد الإجارة.
لا أقول: استیجاره فی إتیان العمل فی زمان خاصّ، حتی یقال: إنّ الاستیجار له لیس استیجاراً للواجب.
بل أقول باستیجاره لإتیان الواجب لکن بعد الاستیجار یجوز له مطالبة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 283
حقّه بلا تقیید للموضوع، مع أ نّه قد لا یمکن إلزامه علی العمل وقهره علیه، تأ مّل .
مضافاً إلی أنّ ما کان مالاً عند العقلاء وتکون المعاملة علیه عقلائیة منسلکة فی التجارة عن تراض، فلابدّ فی دعوی کون أخذ الأجر علیه من أکل المال بالباطل من دلیل تعبدیّ مسقط لمالیّته أو لإضافته إلی مالکه حتی یصیر بتحکیم ذلک الدلیل خارجاً عن موضوع الأوّل وداخلاً فی الثانی، أو دلّ دلیل علی عدم صحّة المعاملة کالإجارة الغرریّة ونحوها.
ومجرد إیجاب الشارع وإمکان استیفاء المنفعة بغیر عقد الإجارة لا یوجب سقوط الشیء عن المالیة. کیف؟ وقد فرض إمکان استیفاء المنفعة العقلائیة المقوّمة للمالیّة لدی العقلاء بطریق آخر. فإمکانه بذلک لا یعقل أن یکون مُعدماً لمالیته و کثیراً ما یمکن استیفاء منفعة بلا عقد إجارة مثلاً واستنقاذ عین بلا عقد بیع.
وأ مّا جواز القهر علیه وإلزامه علی الإیجاد بدلیل الأمر بالمعروف فهو أجنبی عن جواز إلزامه لاستیفاء المنفعة وإن یترتّب علیه الاستیفاء قهراً.
وبالجملة فرق بین جوازالإلزام علی إعطاء عمله لاستیفاء المنفعة وبین جواز إلزامه علی إیجاد الواجب الإلهی وإن ترتب نفع للملزِم ـ بالکسر ـ علی عمله. فلو سلّم منافاة جواز الإلزام علی الوجه الأوّل لبقاء الاحترام للمال فلا یسلّم منافاته له علی الوجه الثانی المورد لأدلّة الأمر بالمعروف. وقد تقدّم أنّ مجرد إمکان الاستیفاء بوجه غیر الإجارة لا یوجب إسقاط المالیّة. فالتعبیر فی المقام بقوله: «إنّ استیفاءه منه لایتوقّف علی طیب نفسه» الموهم لإعطاء حقّ من قبل الشارع
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 284
لاستیفاء منفعة عمله کأ نّه فی غیرمحلّه.
وکذا لا ملازمة عقلاً ولا عرفاً بین جواز الاستیفاء قهراً وبین سقوط المالیّة والاحترام کما فی نظائره. فلو خاف علی نفسه التلف یجوز بل یجب الانتفاع بمال الغیر قهراً علیه، کالدخول فی حمّامه ولبس ثوبه ورکوب دابّته مع امتناعه، ومع ذلک یجوز الاستیجار منه بلا إشکال ویکون ضامناً مع الانتفاع بها.
بل جواز الاستیفاء مجاناً لا یوجب بطلان المعاملة علیه أیضاً ولا تصیر به خارجة عن التجارة عن تراض، کما جاز للمارّة الأکل مجّاناً، ولا شبهة فی جواز الاشتراء أیضاً، إلاّ أن یقال فی المقام بلزوم الاستیفاء مجّاناً وهو أوّل الکلام.
فتحصّل ممّا ذکر أنّ شیئاً من المذکورات لا یصلح لإسقاط مالیّة العمل ولا لإسقاط الإضافة إلی الفاعل ولا یدل شیء منها علی بطلان المعاملة.
وأ مّا ما أفاده فی ذیل کلامه من حکم العقلاء بأنّ أخذ الأجر علی ما وجب من قبل المولی أکل للمال مجّاناً وبلا عوض، ففیه منع، إلاّ إذا فهم من أمره المجانیّة، وهو لیس محل الکلام.
والشاهد علی ما ذکرناه أ نّه لو صرّح المولی بأ نّه لا بأس بأخذ الأجر فیما أوجبت علیک لم یحکم العقلاء بالتنافی بین إیجابه ونفی بأس أخذه، مع أ نّه یقع التنافی علی ما أفاده. ولا أظنّ منه ـ قدّس سرّه ـ أ نّه لو ورد دلیل معتبر علی جواز أخذ الأجر فی الواجب عمل معه معاملة المعارض للکتاب والسنّة، بل الظاهر أنّ أخذ الأجر فی مقابل فعل الحرام أیضاً لا یکون من قبیل أکل المال بالباطل عند العقلاء إذا لم یکن الفعل باطلاً عرفاً، ولهذا إنّ العقلاء یعاملون علی المحرمات
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 285
ولایرون أخذ الأجر أو العوض فیها من قبیل الأکل بالباطل کالسرقة والظلم، ولیس الباطل هو الشرعی، فالدلیل علی بطلانها غیر ذلک، کقوله: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» بتقریب قدّمناه أوعدم إمکان تنفیذ المعاملة علی المحرّمات وإیجاب الوفاء بها.
ما أجاب به المحقّق الإصفهانی عن مقالة الشیخ وما فیه
وربما یقال فی جواب مقالة الشیخ: إنّ لمال المسلم حیثیتین من الاحترام:
إحداهما: حیثیة إضافته إلی المسلم، ومقتضی احترامه بهذه الحیثیّة أن لایتصرّف أحد فیه بغیر إذنه وله السلطنة علی ماله ولیس لأحدٍ مزاحمته فیسلطانه. ثانیتهما: حیثیّة مالیّته، ومقتضی حرمتها أن لا یذهب هدراً وبلا تدارک، ومن الوإضح أنّ الإیجاب والمقهوریّة وسقوط إذنه موجبة لسقوط احترامه من الحیثیّة الاُولی دون الثانیة، ولذا جاز أکل مال الغیر فی المخمصة بلا إذنه مع بقائه علی احترامه، ولهذا یضمن قیمته بلا إشکال.
مضافاً إلی أنّ هدر المال غیر هدر المالیّة، والمضرّ الثانی لا الأوّل، ولهذا یصحّ المعاملة مع الکافر الحربی مع سقوط احترام ماله من الحیثیتین وذلک لعدم هدرمالیّة ماله. انتهی ملخّصاً.
وفیه أوّلاً: أ نّه لیس للمملوک إلاّ إضافة واحدة إلی مالکه هی إضافة المملوکیّة، ولها أحکام عقلائیّة وشرعیّة واحترامات کذلک، ومع الغضّ عن تلک الإضافة لا حرمة له مطلقاً ضماناً کانت أو غیره، فالحیثیة الثانیة فی کلامه أی ذات
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 286
المالیّة مقطوع الإضافة لا حرمة لها، وعدم الذهاب هدراً من آثار إضافة المال إلیه ومن الأحکام العقلائیّة المترتّبة علی إضافة المال إلیه أی علی إضافة المالکیّة، لاحیثیّة مقابلة لها. فإضافة المال إلی المسلم أو المال المضاف إلیه موضوع تلک الآثار.
وجواز الأکل فی المخمصة بلا إذن صاحبه وقهراً علیه لیس من جهة سقوط احترام الإضافة إلی المسلم، لأنّ لازم سقوط احترامها عدم الضمان بلاریب، لأنّ موضوع دلیل الضمان الإتلافی وغیره هو مال الغیر المتقوّم بالإضافة.
ولیس الضمان من جهة احترام ذات المال ساقط الإضافة أو مع سلب احترام إضافته، بل لأجل أنّ حکومة دلیل رفع الاضطرار إنّما هی علی بعض الأحکام المترتبة علی إضافة المالکیّة، وهو حرمة التصرف فیه بلا إذنه ورضاه، دون الحکم الوضعی وهو الضمان، لأنّ المضطرّ إنّما یضطرّ إلی الأکل وهو یسدّ رمقه، لا الأکل المجانی، فلیس مضطراً إلی الأکل المجانی. فلیس فی الأکل فی المخمصة سقوط الإضافة إلی المسلم وتحقّق الضمان بإتلاف ذات المال بلا إضافة إلی مالکه وهو واضح.
وکذا الکلام فی مال الکافر الحربی، فإنّه لم تسقط الإضافة المالکیّة عن الحربی، ولماله احترام فی الجملة، وفی إتلافه ضمان فی الجملة.
ومجرّد أنّ للمسلم جواز تملّکه وأ نّه ملک أن یملک لا یوجب سقوط إضافته إلیه وسقوط أحکام الإضافة واحترامها واحترامه مطلقاً، ولهذا یورث ماله ویضمن التالف غیر المسلم، بل لایبعد القول بضمان المسلم لو أتلفه بلا تملّک وإن جاز تملّک عوضه أیضاً. ومجرّد ملک أن یملک لا یوجب جواز التصرّف بلا إذنه ما دام فی ملکه ولا سلب ضمانه إذا أتلفه، إلاّ أن یقال بانصراف أدلّة الضمان عن مثل المورد، والمسألة محتاجة إلی المراجعة.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 287
وثانیاً: أنّ مورد الکلام فی المقام هو أخذ الاُجرة علی إتیان الواجب وصیرورة المکلّف أجیراً علی إیجاد ما وجب علیه، وهو المعنی المصدری، أی نفس الإضافة الصدوریّة.
وإن شئت قلت: إنّ الواجب عمل المکلّف وإیجاده، لا حاصل عمله والمعنی الاسم المصدری. فعلیه لو سقطت حرمة عمله من حیث الإضافة إلیه أی من حیث الإضافة الصدوریة فلا تقع الإجارة علیه صحیحة، لأ نّها وقعت علی ما سقطت حرمته.
وبعبارة اُخری: إنّ للعمل اعتبارین مع وحدته الخارجیّة: اعتبار الإضافة إلی العامل وهو إضافة صدوریّة وهی مقوّمة لاعتبار ملکیّة العامل له، واعتباره فی نفسه وکونه شیئاً بحیاله وحاصلاً من إیجاد الفاعل وهو حاصل عمله لا نفسه. وما تعلّق به التکلیف وإن کان الطبیعة لکن الأمر باعث إلی إیجادها بنحو قرّر فی محلّه فیجب علیه إیجادها، وکذا ما هو محلّ البحث صیرورته أجیراً فی الواجب أی فی الإیجاد الکذائی، فلو سقطت حرمة عمله من حیث إضافته إلی الفاعل لامحیص عن القول بالبطلان.
فالأولی فی الجواب ما تقدّم من أنّ الإیجاب والإلزام لا ینافی بقاء احترامه وإضافته وصحّة الاستیجار علیه.
تقریر المحقّق النائینی للمنافاة والجواب عنه
ومنها: ما أفاده بعض أعاظم العصر، قال فی بیان منشأ بطلان الإجارة علی المحرّمات والواجبات ما حاصله: «أ نّه یعتبر فی الإجارة وما یلحق بها أمران:
الأوّل: أن یکون العمل ملکاً للعامل، بأن لا یکون مسلوب الاختیار بإیجاب أو تحریم شرعی، لأ نّه إذاکان واجباً علیه فلا یقدر علی ترکه، وإذا کان
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 288
محرّماً علیه لا یقدر علی فعله. ویعتبر فی صحّة المعاملة کون الفعل والترک تحت اختیاره.
الثانی: أن یکون العمل ممکن الحصول للمستأجر، فلو لم یکن کذلک کما إذا تعلّق تکلیف علیه مباشرة فلا تصحّ الإجارة علیه وإن انتفع به، فإنّ مجرّد الانتفاع لا یصحّحها فإنّه معتبر فی جمیع المعاملات لإخراجها عن السفهیة». ثمّ فرّع علی ذلک بطلان الإجارة علی الواجبات لفقد الأمرین وعلی المحرّمات لفقد الأوّل منهما.
ویرد علی الأمر الأوّل: أ نّه إن اُرید به أنّ التکلیف یسلب الاختیار تکویناً فهو کما تری وهو لا یریده جزماً.
فلابدّ وأن یکون المراد بسلب الاختیار أ نّه بعد الإیجاب والتحریم لیس مختاراً من قبل الشارع فی إیجاد الفعل وترکه، أی لایکون الفعل مباحاً علیه ومرخّصاً فیه، ویراد بقوله فإذا کان واجباً لا یقدر علی ترکه أ نّه لا یجوز ترکه.
فهو کما تری مصادرة واضحة، فإنّ المدّعی أ نّه إذا أوجب اللّٰه ـ تعالی ـ عملاً لا یجوز أخذ الأجر علیه، والدلیل المذکور أ نّه إذا کان واجباً لا یجوز ترکه ویجب إتیانه ولیس مرخّصاً فی فعله وترکه فلا یجوز أخذ الأجر علیه، وهو عین المدعی ویطالب بالدلیل علی أ نّه إذا کان کذلک لِمَ لا یجوز أخذ الأجر علیه؟
وإن اُرید أ نّه إذا وجب تکلیفاً سلبت القدرة الوضعیّة عنه فهو أیضاً مصادرة واضحة والإنصاف أنّ هذا لا یرجع إلی محصّل.
وعلی الأمر الثانی: بأنّ المراد بإمکان الحصول للمستأجر إن کان إمکان المملوکیّة له، بمعنی أن یصیر العمل أو نتیجته ملکاً له کملکیّة الهیئة الحاصلة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 289
بالخیاطة ونحوها، فلا شبهة فی عدم اعتبار ذلک فی صحّة الإجارة، ضرورة صحّتها علی تعمیر المساجد والطرق والقناطیر، وکذا صحّتها علی عمل للأجنبی. وإن کان المراد بإمکان الحصول له صیرورة العمل ملکاً له بمعنی کونه مالکاً للإبراء والإلزام فلا ریب فی أنّ هذا المعنی حاصل له فله إبراؤه وإبرامها وفسخها مع الخیار ولهما الإقالة إلی غیر ذلک من أحکام مالکیّة العمل أو المنفعة، وبإبرائه أو فسخها یسقط حقّه المعاملی وإن وجب من قبل الشارع ویجب علیه الأمر بالمعروف بشرائطه.
وإن کان المراد من الحصول إمکان تحقّقه علی نحو المعاقدة والمعاملة علیه فلا ریب فی إمکان حصوله له بهذا المعنی، فإنّ من له غرض عقلائی من نفع أو غیره فی وجود عمل صادر من الغیر واستأجره علی إیجاده فأوجده علی طبق غرضه فقد حصل العمل له.
وأ مّا ما قال فی خلال کلامه: إنّ مجرد الانتفاع لایصحّح الإجارة، غیر وجیه، لأنّ الانتفاع العقلائی الموقوف علی وجود عمل فی الخارج یصحّحها کالاستیجار لتعمیر المساجد ونحوه، بل لا یعتبر فی صحّتها الانتفاع أیضاً، فإن کان لفعل أثر مورد لغرض عقلائی یصحّ الإجارة علیه وإن لم ینتفع المستأجر به. فالمیزان فی صحّتها کون العمل مرغوباً فیه لغرض عقلائی.
استدلال المحقّق الکبیر کاشف الغطاء علی المنافاة وما فیه
ومنها: ما عن شرح الاُستاذ علی القواعد من أنّ المنافاة بین صفة الوجوب والتملّک ذاتیّة، لأنّ المملوک والمستحقّ لایملک ولایستحقّ ثانیاً.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 290
وفیه ـ مضافاً إلی التنافی بین دعوی ذاتیة التنافی بین صفة الوجوب والتملّک الظاهرة فی أنّ التنافی لذاتهما لا لأمرآخر، وبین تعلیله الظاهر فی أنّ التنافی بین المملوکین والمستحقّین بالذات لا بین صفة الوجوب والتملّک، وتوجیه کلامه بأنّ مدّعاه اتّحاد ماهیّة الوجوب والتملّک أفحش.
أ نّه إن أراد بما ذکر أنّ الإیجاب من الأسباب المملکة، فإذا تعلّق بعمل یوجب صیرورته للموجب ومع کونه له لایمکن جعله لشخص آخر، لعدم إمکان کون المملوک مملوکاً ثانیاً .
ففیه منع کونه مملّکاً لا عند العقلاء وهو واضح، ضرورة أنّ الأب أو المولی إذا أمرا بعمل لا یصیران مالکین له لدی العقلاء بحیث یعدّان ذا مال بعهدة الولد والمملوک فصارا مستطیعین لأجل ذلک وصار المال موروثاً، إلی غیر ذلک من الآثار، کإجارته بالغیر نحو الدابة، ولا عند الشارع، لعدم الدلیل علی جعل السببیّة له، بل الدلیل علی خلافه، فإنّ فعل الابن المأمور به لا یصیر ملکاً لأبیه بضرورة الفقه.
ولو ادّعی الفرق بین أوامر اللّٰه ـ تعالی ـ وأمر غیره ففیه ما لا یخفی، لأنّ الإیجاب فی جمیع الموارد بمعنی واحد ولو کان المنشئ له مختلفاً، مضافاً إلی عدم الدلیل علی سببیة إیجاب اللّٰه ـ تعالی ـ لتملّکه الاعتباری ولو قلنا بصحّة اعتبار الملکیّة له ـ تعالی ـ عند العقلاء بهذا المعنی الاعتباری، وسنشیر إلیه وإلی فساده.
وإن أراد بذلک أنّ الإیجاب مستلزم لقطع سلطنة المکلّف وحدوث سلطنة للمولی ولا معنی للملکیّة مع سقوط أنحاء السلطنة عن المالک فإنّ اعتبار الملکیّة عند العقلاء بلحاظ آثارها ومع عدم الأثر مطلقاً لا معنی لاعتبارها.
ففیه: أنّ المدّعی إن کان قطع جمیع أنحاء السلطنة ومنها السلطنة علی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 291
المعاملة والإجارة فهو مصادرة، لأنّ الکلام فی أ نّه هل یصحّ أخذ الأجر علی الواجبات وأنّ الإیجاب یوجب بطلان الإجارة أو لا.
وبالجملة نحن مطالب بالدلیل علی هذا المدعی.
وإن کان المدّعی قطع بعض أنحائها، وهو عبارة اُخری عن سلب اختیاره وسلطنته تشریعاً عن الفعل والترک، وهو عبارة اُخری عن الوجوب الرافع للترخیص فهو بهذا المعنی مسلّم لکن لا یوجب سلب الملکیّة، فإنّ اعتبارها متقوّم بترتّب الأثر فی الجملة، فکثیراً ما سلب بعض أنحاء السلطنة عن المالک مع بقاءملکیّته عندالعقلاء. .
فتحصّل ممّا ذکر عدم المنافاة بین صفة الوجوب والتملّک وعدم منشأیة الوجوب لملکیة اللّٰه ـ تعالی ـ حتی لا تجتمع ملکیّته مع ملکیّة غیره.
ما ذکره السیّد المحقّق الطباطبائی وما فیه
وأ مّا ما فی تعلیقة الطباطبائی(ره) من أنّ السرّ فی عدم المنافاة أنّ ملکیة المستأجر فی طول طلب الشارع واستحقاقه، وقد نطقت بإمکان الملکیّة الطولیّة الألسن وصار کالأصل المسلّم، وقد مثّلوا تارة بملکیّته ـ تعالی ـ للأشیاء وملکیة رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة ـ علیهم السلام ـ لها مع ملکیّة کلّ مالک لملکه، واُخری بملکیّة العبد والمولی لمال العبد طولاً.
ففیه: أنّ الطولیة المدعاة فی المقام عکس الطولیّة فی المثالین، فإنّ فیهما یقال: إنّ الناس مملوکون للّٰه ـ تعالی ـ مع أملاکهم، والعبد وملکه لمولاه. وفی المقام
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 292
یقال: إنّ أمر اللّٰه ـ تعالی ـ أوجب ملکیّته ـ تعالی ـ للعمل والمستأجر ملک ما ملک اللّٰه، فاللّٰه ـ تعالی ـ ملک ذات العمل والمستأجر ملک المملوک له ـ تعالی ـ ، وهو بوصف مملوکیّته فی طول الذات.
وأنت خبیر بأنّ هذا النحو من الطولیّة لا یصحّح اعتبار الملکیّة بل ینافیه ویناقضه. فهل یصحّ القول بأنّ الثواب ملک لزید، وبما أ نّه ملک لزید ملک لعمرو، وهل هذا إلاّ التناقض فی الاعتبار لدی العقلاء والعرف؟ والمسألة عرفیة لاعقلیّة لابدّ فی حلّها من المراجعة إلی الاعتبارات العقلائیّة، لا الدقائق العقلیّة، مع أنّ مثل هذه الطولیّة لا یدفع به التنافی فی العقلیّات أیضاً، فهل یمکن تحریم شیء وإیجابه بوصف کونه محرّماً عقلاً؟
مضافاً إلی أنّ الطولیّة فی المثالین أیضاً ممّا لا أصل لها، فإنّ ملکیّته ـ تعالی ـ للأشیاء بهذا المعنی الاعتباری المبحوث عنه فی مثل المقام غیرثابتة، بل لا معنی لها. فهل تری من نفسک أ نّه ـ تعالی ـ ملک الأشیاء بهذا المعنی المعروف؟ مع أنّ لازمه أ نّه لو وهب بتوسط نبی من أنبیائه شیئاً من عبده سقطت ملکیّته وانتقلت إلی العبد، فلو کان سبیل ملکیّته للأشیاء ما لدی العقلاء لابدّ من الالتزام بآثارها، وهو کما تری.
والظاهر أنّ أولویّة التصرّف والسلطان علی التصرّفات الثابتة للّٰه ـ تعالی ـ عقلاً، وللنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة ـ علیهم السلام ـ بجعله ـ تعالی ـ، أوجبت توهم کونهم مالکین للأشیاء تلک المالکیّة الاعتباریّة .
والسلطنة علی سلب الملکیّة وإقرارها غیر الملکیّة، کما نشاهد فی السلاطین العرفیّة والقوانین العقلائیّة، فإنّ السلطان مثلاً لیس مالکاً للأشیاء بحیث لو مات
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 293
صار جمیع ما فی مملکته إرثاً لوارثه ویکون السلطان مستطیعاً باعتبار ملک رعیّته، بل یکون الملک للرعیّة والسلطان أولی بالتصرّف.
فلله ـ تعالی ـ ولرسوله صلی الله علیه و آله وسلم وللأئمّة ـ علیهم السلام ـ سلاطین البشر سلطنة علی النفوس والأموال، من غیر أن تکون الأموال ملکاً اعتباریّاً لهم بحیث لو باعوا سلبت منهم الملکیّة والسلطنة.
وأ مّا العبد وملکه فمسألة مشکلة یقع الکلام فیها تارةً فی صحّة مالکیّته، واُخری فی کیفیّة مالکیّة المولی لماله علی فرض مالکیّته ؛ هل هو نظیر مالکیّة اُولی الأمرأو نحو آخر، فلا یصحّ جعل ما هو مشکل ومحلّ کلام شاهداً علی غیره، ولاحلّ مشکلة بمشکلة.
عدم صحّة قیاس الملکیّة الاعتباریة بالإضافة الإشراقیّة
وأ مّا قضیّة مالکیّته ـ تعالی ـ بالإضافة الإشراقیة التی قد یری إدخالها فی تلک المسائل فأمر غیر مربوط بالمالکیّة المبحوث عنها فی مثل المقام، وعلی المحصّل أن یجتنب من إدخال مسائل غیر مربوطة بالفقه فیه، إذ فی اختلاط العقلیات سیّما مثل تلک المسائل غیر المنحلة عند أهلها بالعرفیّات مظنّة اعوجاج أذهان المشتغلین واغتشاش أفکارهم.
ولهذا تری مقایسة بعضهم الملکیّة الاعتباریّة العقلائیّة بالإضافة الإشراقیة. وتوهم أنّ مالکیّته ـ تعالی ـ بتلک الإضافة متی تجتمع مع مالکیّة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 294
المخلوقین فلا محالة تجتمع مالکیتان اعتباریتان طولاً، غفلة عن أنّ القیاس مع الفارق.
فالمخلوق للّٰه ـ تعالی ـ یمکن أن یکون مملوکاً اعتباریاً لغیره، والمملوک الاعتباری لشخص لایعتبرمملوکاً لآخرلدی العرف والعقلاء.
وأعجب منه قیاس الملکیتین المستقلتین علی مملوک واحد باجتماع أوصیاء ووکلاء متعدّدین علی شیء واحد مستقلاً فیهما. مع أنّ الفارق لدی العرف والعقلاء أوضح من أن یخفی، فإنّ الملکیّة نحو إضافة لازمها اختصاص المال بالمالک أو نحو اختصاص له به، وکون شیء بکلّیته ملکاً مختصّاً بأکثر من واحد تناقض فی الاعتبار.
وأ مّا استقلال التصرّف اللازم للوصیّة لیس إلاّنفوذ تصرّفه بلا احتیاج إلی ضمّ نظر آخر وإجازته، فلو باع أحد الوصیّین أو الوکیلین جمیع دار من رجل، وباع الآخر جمیعها من آخر، فهل یمکن القول بصحّتهما وعدم تعارضهما؟ فلولا التنافی بین الملکیتین المستقلّتین علی شیء واحد لم یقع التعارض بینهما، فلابدّ من القول بوقوعهما صحیحین وکلّ منهما صارمالکاً لجمیعه، وهوکما تری واضح الفساد. ولیس ذلک إلاّ لوضوح التنافی المذکور لدی العرف والعقلاء، فقیاس ملک التصرّف مع ملک العین مع الفارق، والسند حکم العرف.
ما أفاده المحقّق النراقی فی المقام وما فیه
ومنها: ما تمسّک به النراقی، قال ما محصّله: «وإن کان واجباً مطلقاً أی غیر متقیّد بأخذ الأجر علیه لا یجوز أخذ الأجر علیه وإن کان فیه منفعة للمستأجر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 295
کإنقاذ ولده، لأنّ إیجاب اللّٰه علی الأجیر تملیک للمستأجر، ولأنّ منافع العبد ملک اللّٰه ـ تعالی ـ ، وهو وإن أذن له أنحاء التصرّفات إلاّ أنّ إیجابه لفعل یوجب عدم إذنه فی التصرّف وأخذ العوض، بل الإیجاب تفویت تلک المنفعة وطلبها لنفسه وإخراجها من یده ومن کونها مملوکة له». انتهی.
وفیه ـ بعد الغضّ عن التنافی بین صدر کلامه وذیله کما یظهر بالتأ مّل، وبعد الغضّ عن أنّ دلیله الأوّل أخصّ من المدّعی، لعدم کون جمیع الواجبات التی فیها نفع للمستأجر مثل إنقاذ ولده الذی ربّما یتوّهّم تملیک المنفعة له، ضرورة أنّ مثل الحجّ واجب إلهی لا یتوهّم أن یکون إیجابه علی المکلّف تملیکاً لمن له نفع فیه ـ أنّ إیجاب اللّٰه لیس تملیکاً بوجه حتّی فی مثل إنقاذ الغریق، ولا جعل حقّ حتی فی مثل تجهیزالمیت، بل وجوبهما حکم شرعیّ محض، ولهذا لایترتّب علیهما شیء من أحکام الملک والحقّ، فلا یجوز الإعراض والإسقاط، ولا النقل، ولا سائر التصرّفات المربوطة بالملک والحقّ، ویجوز بل یجب الإنقاذ بلا إذن الغریق ووالده ومع نهیهما.
ودعوی أنّ منافع العبد مملوکة للّٰه لا للعبد وإن أجاز التصرّف فیها، الملازمة لدعوی أنّ جمیع الأعیان الخارجیّة أیضاً کذلک، غریبة منه، ومخالفة لضرورة الفقه من مملوکیّة الأعیان والمنافع للناس.
نعم وقع الکلام فی أنّ عمل الحرّ قبل الإجارة ملک له أو لا؟ وهو أمر آخر غیر ما یدعیه.
وأ مّا سائر دعاویه، کقوله: «إنّ إیجابه یوجب عدم إذنه فی التصرّف، وأ نّه تفویت المنفعة، وأ نّه طلب لنفسه وسلب المملوکیّة عن العبد»(3)، فکلّها
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 296
مصادرات إن کان المراد من سلب الإذن وغیره الأعم من الوضعیّات، وغیر مفیدة لو لم یرد الأعم.
ثمّ إنّ هناک استدلالات ضعیفة لا یحتاج فی دفعها إلی زیادة مؤمنة، من عدم ترتّب آثار الملک علی العمل من الإبراء والإقالة، ومن لغویّة بذل العوض بما یتعیّن علی الأجیر، ومن أنّ الواجب تعود منفعته إلی الأجیر، فأخذ الأجر علیها أکل للمال بالباطل، ومن أنّ أدلّة إنفاذ العقود قاصرة عن الشمول للمورد أو شکّ فی شمولها، ومن أنّ المتبادر من إیجاب شیء طلبه مجانا إلی غیرذلک.
تقریر آخر لمسألة المنافاة
ویمکن الاستدلال علی المطلوب بأنّ جلّ الواجبات العینیّة التعیینیّة کالصلاة والصوم والحج ونحوها اعتبر فیها مضافاً إلی أصل الوجوب کونها علی ذمّة العبد نحو الدیون الخلقیة.
أ مّا الحجّ فلظاهر قوله ـ تعالی ـ: «وَ لله عَلَی النّاسِ حِجُّ البیتِ...» فإنّ اعتبار «له» علیه غیر اعتبار الإیجاب، وقد ورد فی روایات إطلاق الدین علیه، کروایة الخثعمیة وغیرها.
ومن الممکن استفادة هذا الاعتبار من قوله ـ تعالی ـ: «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الّذینَ مِنْ قَبْلِکُمْ».
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 297
ومن قوله ـ تعالی ـ: «إِنَّ الصَّلاةَ کانَتْ عَلیَ المؤمنینَ کِتاباً مَوْقُوتاً»، تأ مّل.
مع أنّ وجوب قضاء الواجبات أقوی شاهد علی ذلک الاعتبار، فإنّه لو کان الحجّ مثلاً واجباً علیه تکلیفاً محضاً بلا اعتبارکونه علیه لما کان معنی لقضائه عنه بعد موته، لأنّ التکلیف ساقط عنه بل غیر متوجّه به، فلابدّ وأن یکون فی عهدته شیء لم یسقط عنه بسقوط التکلیف وسقط بإتیان الغیر کالولد الأکبر وغیره، ولیس إلاّ اعتبار أمر وضعیّ وکون تلک الواجبات دیناً علیه، ولا محالة یکون الدائن الطالب هو اللّٰه ـ تعالی ـ.
إلاّ أن یقال بمقالة عَلَم الهدی، من أنّ القضاء لیس نیابة عن المیّت، وإنّما هو واجب أصلی خوطب به القاضی، وسببه فوات الفعل من المیّت، والمیّت لایثاب علیه.
وهو کما تری، بل لابدّ من تأویل کلام السیّد کما أوّله بعضهم.
وکیف کان یظهر ممّا مرّ أنّ الأعمال الواجبة ملک للّٰه ـ تعالی ـ ودین علی العبد، فلا یجوزإجارة نفسه لما لا یملکه، ویکون ملکاً للغیر .
ثمّ إنّ الاعتبار المذکور إنّما یکون فی النذر بجعل العبد للّٰه علی نفسه وتنفیذه ـ تعالی ـ ، وباب الکفارات المعیّنة کلّها من قبیل الدین، وفی المخیّرة إشکال عقلی قابل الدفع بتصویر جامع اعتباری أو انتزاعی، ولیس الکلام هاهنا فی الواجب التخییری، ویأتی الکلام فیه.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 298
فاتّضح ممّا ذکر وجه عدم جواز أخذ الأجر علی الواجبات التی بتلک المثابة ففی الزکاة والخمس لابدّ وأن تؤدّیان بعد الموت بعنوانهما مع ما یعتبر فیهما، فیستکشف منه أنّ نفس العمل الواجب اعتبرت فیه العهدة والدینیّة، ویلحق بها ما لیس کذلک لعدم القول بالفصل، تأ مّل.
بل یمکن دعوی منافاة أخذ الاُجرة علی الواجب العینیّ التعیینیّ فی ارتکاز المتشرعة.
ولعلّ الوجوه التی تشبّث بها الأعاظم والمحقّقون مع ضعفها کما مرّ. تشبّثات بعد الفراغ عن عدم الجواز فی ارتکازهم، مع أ نّه لم ینقل الجواز فی الواجب المذکور من أحد وإنّما نقل الخلاف فی الأجر علی القضاء ونحوه من الکفائیّات. والتعیّن فیها فی بعض الأحیان عقلی لا شرعی.
فالمسألة مظنّة الإجماع، فالأقوی فیما یعتبر فیه العهدة والذمّة عدم الجواز، وفی غیرها هو الأحوط بل لا یخلو من قوّة.
الکلام فی الواجب التخییری
ثمّ إنّ بما ذکرناه یظهر الکلام فی الواجب التخییری، ولابدّ من تمحیض الکلام فیه من وقوع الإجارة علی الواجب، فالقول بالصحّة فیما إذا وقع العقد علی خصوصیّة متّحدة مع الواجب لا علیه أجنبی عن محطّ الکلام.
وتوجیه کلام الشیخ فی الواجب التخییری بأنّ مراده الوقوع علی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 299
الخصوصیة غیر مرضی، فإنّه خروج عن البحث لا تفصیل بین التخییری وغیره.
بل التفصیل بین التعیینی والتخییری، سواء کان التخییر شرعیاً أو عقلیاً، مقتضی الدلیل الذی تمسّک به فی إثبات عدم الجواز من سلب احترام عمله لأجل أنّ استیفاءه منه لا یتوقّف علی طیب نفسه، لأ نّه یقهر علیه مع امتناعه، وأحد أطراف التخییری لیس کذلک، فبقی علی احترامه.
نعم، لو ضاق الوقت أو عجز إلاّعن أحد الأطراف بحیث یتعیّن علیه الإتیان به کان مقتضی دلیله عدم الجواز لسلب احترامه، وأنّ استیفاءه لا یتوقّف علی طیب نفسه.
کما أنّ التفصیل المذکور لازم الاستدلال علی المطلوب بأنّ الوجوب الشرعی موجب لسلب قدرة العبد واختیاره، کما لا یخفی.
وأ مّا بناءً علی ما ذکرناه من أنّ الواجبات التی اعتبر فیها الدینیّة والملکیّة للواجب ـ تعالی ـ لا یجوز الأجر علیها، فلا یفترق بین التخییری والتعیینی. فإنّ الإجارة علی أحد الأطراف فی التخییریّ الشرعی، بحیث یکون مورد الإجارة هو الواجب، إجارة علی عمل ملکه اللّٰه ـ تعالی ـ ، لأنّ کلّ طرف من طرفی التخییر إذا وجد یکون ملکاً له، وکذا لوآجره علی إتیان واجب فی مکان کذا أو زمان کذا أو غیرهما من الخصوصیّات فی التخییر العقلی، لأنّ العمل الخاصّ ملک له ـ تعالی ـ وإن اکتنف علی أمر زائد، والإجارة علی ملک الغیر المتخصّص بخصوصیّة زائدة باطلة.
وبالجملة الإجارة إمّا وقعت علی الخاصّ، أو علی الخصوصیّة، فعلی الأوّل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 300
باطلة لوقوعها علی ملک الغیر، وعلی الثانی خروج عن محطّ البحث.
تصویر تعلّق الملکیّة بالواجب التخییری
نعم، هنا کلام آخر، وهو تصویر الملکیّة فی الواجب التخییری، وأ نّه هل یمکن ملکیّة الأمر المردّد أو لا؟
أقول: إن قلنا بأنّ الملکیّة بما أنهّا من الاُمور الاعتباریّة لاتحتاج إلی محلّ معین موجود کالأعراض الخارجیّة المحتاجة إلی المحلّ، کما ذهب إلیه شیخنا الأنصاری واستشهد علیه بتصریح الفقهاء بصحّة الوصیّة بأحد الشیئین بل لأحد الشخصین، فلا کلام.
وإن قلنا بعدم إمکانه فیمکن أن یقال: إنّ اعتبار الدینیّة أو الملکیّة فی الواجبات لیس من قبیل الانتزاع من الوجوب حتّی یتبعه فی اللوازم، بل لو کان منتزعاً من التکلیف لکان اللازم سقوطه بسقوطه مع ثبوت الدین حتی مع سقوط الوجوب بموت. وتخیّل کون الوجوب واسطة فی الثبوت لا العروض باطل، لأنّ المورد لیس من قبیله بل الانتزاعیّات تابعة لمنشأ انتزاعها ثبوتاً وسقوطاً.
مضافاً إلی أنّ الدینیّة والملکیّة لو کانتا منتزعتین من التکلیف لکان اللازم انتزاعهما من کلّ تکلیف، وهو واضح الفساد. وکذا الحال لو کان الوجوب واسطة للثبوت أو العروض فالوساطة ومنشأیة الانتزاع فاسدتان، مع أ نّه یکفی فی المقام عدم الدلیل علی الانتزاعیة فإذا لم یثبت ذلک یمکن أن تکون الملکیّة معتبرة لعنوان واحد هو جامع حقیقی بینها أو انتزاعی مع فقد الحقیقی کصاع من صبرة بنحو الکلی فی المعین لا بنحو الفرد المردّد.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 301
وبالجملة مع قیام الدلیل علی اعتبار العهدة والدینیّة فی واجب تخییری کالتخییریّات فی باب الکفارات بل وکالصلاة فی الأماکن الأربعة بما ذکرناه من الوجه فی ملکیّة المذکورات للّٰه ـ تعالی ـ ودینیّتها لا یجوز رفع الید عنه إلاّمع قیام الدلیل علی الامتناع، ومع احتمال الإمکان فالدلیل متّبع، مع أنّ الإمکان فیها ثابت. ففی الکفّارة المرتّبة والمخیّرة معاً، ککفّارة حنث الیمین حیث یجب فیه عتق رقبة أو إطعام عشرة مساکین أو کسوتهم مخیّراً بینها فإن عجز عن الجمیع فصیام ثلاثة أیّام، یمکن جعل عنوان واحد منها القابل للصدق علی کلّ منها کالصاع من الصبرة علی القادر وعلی العاجز عنها صیام ثلاثة أیّام. وقس علیه غیره ممّا هو أخفّ مؤمنة فی الاعتبار.
الکلام فی الواجب الکفائی
وممّا ذکرناه یظهر الکلام فی الواجب الکفائی من حیث إمکان اعتبار العهدة والدینیّة، فإنّه لو قلنا فیه بأ نّه واجب علی کلّ مکلّف وإن سقط عنهم بإیجاد واحد منهم فلا إشکال فی صحّة اعتبار العهدة علیهم والسقوط بأداء بعضهم.
وإن قلنا بأنّ المکلّف فیه واحد من المکلّفین قابل للانطباق علی کلّ مکلّف فی الخارج وإن لم یکن الانطباق إلاّبنحو التبادل ـ بمعنی أ نّه لا یجب علیهم عرضاً کالصاع من الصبرة المبتاع، فإنّه منطبق علی کلّ صاع من صیعان الصبرة لکنّ المملوک لیس إلاّصاعاً واحداً، فهو منطبق علی کلٍّ تبادلاً، نعم قد یکون المکلّف فی الکفائی واحداً بشرط لا، وقد یکون لا بشرط، والفرق واضح ـ فاعتبار العهدة والدینیّة أیضاً ممّا لا إشکال فیه.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 302
وتوهّم أنّ الواحد العنوانی کلّی وهو غیر قابل لتوجّه التکلیف علیه فاسد، لأنّ صحّة التکلیف تابعة لقابلیّته للبعث و الانبعاث. وماتعلّق بالعنوان القابل للانطباق علی الخارج قابل له، بل التکالیف کثیراً ما تتعلّق بالعناوین، کقوله: «لله عَلی الناسِ»، بل فی مثل قوله: «یـٰا أَیُّهَا الّذین آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، یکون التکلیف متعلّقاً بعنوان قابل للانطباق علی الأفراد فی عمود الزمان، وکثیر من تکالیف أهل العرف کذلک، فیقول المولی لعبیده: فلیفعل واحد منکم کذا، ومعلوم لدی العقل والعقلاء أ نّه لو ترک الجمیع الأمر المتعلّق بواحد عنوانی یکون الجمیع مستحقّاً للعقوبة لانطباقه علی کلّ منهم تبادلاً.
نعم لو قلنا بأنّ الواجب الکفائی نظیر الواجب التخییری أو نظیر الفرد المنتشر ففی صحّة العهدة تأ مّل وإشکال، وإن کان مقتضی کلام الشیخ الأعظم فی نظیره صحّة الاعتبار.
وکیف کان لو اعتبرت فی الکفائی العهدة و الدینیّة یکون الکلام فیه کالعینی، فإنّ المفروض وقوع الإجارة علی الواجب، ومع کون العمل ملکاً للّٰه ـ تعالی ـ لا یصحّ تملیکه لغیره. لکن لیس فی الواجبات الکفائیّة ظاهراً ما یعتبر فیها العهدة والدینیّة للّٰه ـ تعالی ـ ، ولا جعل استحقاق وعهدة لغیره. وقد مرّ أنّ تجهیز المیّت وکذا إنقاذ الغریق بل وطبابة الطبیب لیست من هذا القبیل، ولیس فیها من آثار الحقّ والملک شیء.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 303
فالأقوی صحّة الاستیجار فی الکفائیّات إلاّ إن ثبت فی کفائی اعتبار الملکیّة له ـ تعالی ـ أو لغیره.
إشارة إلی الواجبات النظامیة
تنبیه: وبما ذکرناه ظهر الکلام فی الواجبات النظامیّات علی فرض تسلیم کونها واجبات، فإنّ وجوبها لا یقتضی الدینیّة والعهدة لأحد، لا للّٰه ـ تعالی ـ ولا لغیره کما تقدّم، ولا دلیل علی اعتبارها زائدةً علی الوجوب. فمقتضی القاعدة جواز أخذ الأجر علیها من غیر ورود إشکال ولا شبهة نقض لما ذکرناه.
لکن الشأن فی أنّ حفظ النظام واجب، أو الإخلال به حرام؟ وعلی الثانی یکون ما هو الجزء الأخیرمن العلّة التامّة للإخلال محرّماً، بناء علی حرمة مقدّمة الحرام. فلو کان ذلک ترک ما یتوقّف علیه النظام یکون ذلک الترک محرماً، ومع اقتضاء حرمة الشیء وجوب ضدّه العامّ یکون الفعل واجباً.
وعلی الأوّل یجب مایتوقّف علیه النظام،بناءعلی وجوب المقدّمة، لکن التحقیق عدم وجوب المقدّمة مطلقاً، وعدم اقتضاء الأمربالشیء النهی عن ضدّه العامّ ولا عن ضدّه الخاصّ، وعلی فرض وجوبها واقتضائه لا یکون فی التکلیف التوصلی اعتبار الدینیّة ولو فرض الاعتبار أو الانتزاع فی غیره، والاعتبار الخارج المستقل غیرثابت.
وتوهّم أنّ المستحق لتلک الواجبات النظامیّة من وجب النظام له غیر وجیه، ضرورة عدم ترتّب أثر من آثار الحقّ فیها کالنقل والإسقاط والاحتیاج إلی الإذن ونفوذ النهی عن التصرّف وغیرها، فهی علی فرض وجوبها واجبات شرعیّة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 304
لغرض متعلّق بحفظ النظام أو لمبغوضیّة اختلاله.
کلام المحقّق النائینی فی الواجبات النظامیّة
وکیف کان فنحن فی فسحة من الإشکال المعروف، وکذا من کان اعتماده فی حرمة أخذ الاُجرة علی الواجبات علی أمر تعبدیّ کالإجماع.
لکن لابدّ للمتمسک بالوجوه الاُخر کالوجوه العقلیة من الدفاع عن الإشکال وبیان وجه التفرقة بینها وبین غیرها، ومع عدم صحّة الدفاع یعلم بطلان الوجه المتشبّث به، إذ لا یمکن القول بالإخراج تخصیصاً. وقد ذکروا للتخلّص وجوهاً.
منها: ما ذکره بعض الأعاظم، قال عقیب ما ذکره من اعتبار أمرین فی الإجارة ونحوها: أحدهما: أن لا یکون الأجیر مسلوب الاختیار بإیجاب أو تحریم شرعی، وثانیهما: أن یکون العمل ممکن الحصول للمستأجر، کما تقدّم الکلام فیهما ما حاصله: «أنّ الواجبات النظامیّة ماعدا القضاء یجوز أخذ الأجر علیها لحصول الشرطین، أ مّا الثانی فواضح.
وأ مّا الأوّل فلأنّ الواجب فی النظام المعنی المصدری کالطبابة، وما تقع بإزائه الاُجرة هو حاصل المصدر، لأ نّه مال لا المصدر الذی معنی آلی، وهما وإن کانا متّحدین خارجاً إلاّ أ نّهما مختلفان اعتباراً، فللشارع تفکیکهما وإیجاب المصدر واعتبار ملکیّة اسمه، والواجبات النظامیّة کذلک إلاّ القضاء، فإنّ التکلیف تعلّق بنتیجة عمل القاضی وهو فصله الخصومة فلا یجوز أخذ الأجر علیه. وأ مّا المصدر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 305
فلیس بمال.
وکیف کان لو وجب بذل العمل وحرمة احتکاره یجوز أخذ الأجر علیه، ولووجب نتیجة العمل علیه فلا یجوز، لأنّ المصدرآلی غیر مالی واسمه خارج عن ملکه. ونظیرالأعمال فی الشقّین الأموال، فإنّه قد یتعلّق تکلیف أو وضع بنفس الملک کباب الخمس والزکاة فلا یجوز أخذ العوض علیه، وقد یتعلّق تکلیف بالتملیک والإعطاء فیجوز، کوجوب بیع الطعام فی المخمصة، فإنّ التکلیف حرمة حبسه واحتکاره الطعام ولم یتعلّق بنفس المال». انتهی.
وفیه ـ مضافاً إلی أنّ إمکان الحصول الذی ادّعی الظهور فیه غیر ظاهر بالمعنی الذی تقدّم منه، فإنّه اعتبر فیه زائداً علی الانتفاع بالعمل حصول العمل له، وبهذا المعنی لا یکون إمکانه ظاهراً فی الواجبات النظامیّة، فإنّ المعنی المصدری وکذا حاصله أمر غیر باقٍ وغیر حاصل للمستأجر، والانتفاع بهما وإن کان ممکناً له لکنّه أنکرکفایة الانتفاع فی الصحّة، والبقاء الاعتباری فی حاصل المصدر مشترک بین الواجبات النظامیّة وغیرها، فلابدّ له من القول بالصحّة مطلقاً، وأثر العمل کالهیئة فی المخیط وإن کان حاصلاً له لکنّه لیس مورد الإجارة لأ نّه لیس مصدراً ولا حاصله کما هو واضح.
مضافاً إلی أنّ الأثر حاصل له فی بعض الواجبات غیر النظامیّة، کقرض الکفن وحفر القبر فیما إذا کان واجباً علی شخص تعییناً ولو عقلاً، وکذا لو کان للصلاة وغیرها أثر باقٍ حاصل للمستأجر، کتعلّم أجزائها وکیفیّتها، فلابدّ له من القول بالصحّة فیها أو عدم المانع من هذه الجهة ـ .
أنّ التکلیف فی جمیع الموارد متعلّق بالمصادر لابأسمائها، ونحن وإن قلنا فی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 306
محلّه بأنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع مقابل من قال بتعلّقها بالإیجاد لکنّه کلام آخر وفی مقام آخر، إذ لا شبهة فی أنّ مفاد الهیئة إیقاع البعث إلی المادّة وهی نفس الطبیعة، والبعث إلیها تحریک إلی تحصیلها وهو ملازم لإیجادها عرفاً وعقلاً، لأنّ الطبیعة لیست طبیعة بالحمل الشائع إلاّ بالوجود، وبالأخرة یتعلّق التکالیف بأفعال المکلّفین، سمّی إیجاد الطبیعة أو تحصیلها.
فما قال فی جملة من کلامه: إنّ التکلیف لو تعلّق بحاصل المصدر فکذا، لیس علی ما ینبغی، لأنّ حاصل المصدر لیس مورد تعلّق التکالیف.
کما أنّ الإجارة فی الأعمال تتعلّق بأعمال المؤجر لابحاصل المصدر واسمه، فإنّه مع قطع الإضافة عن الفاعل لیس قابلاً للاستیجار لکونه مستقلاً غیر مربوط بالفاعل.
مع أنّ الإشکال فی المقام هو قیام الضرورة والسیرة علی الاستیجار بالنحو المتعارف فی الواجبات النظامیّة، ولا معنی لتصحیح أمر متخیّل غیر منطبق علی ما فی ید المسلمین والجامعة البشریة. ومن الواضح أنّ الإجارة وقعت حیثما وقعت وتقع علی الأعمال بالمعانی المصدریّة، فیستأجر الخیّاط لیخیط له، والصبّاغ لیصبغ وهکذا. فحاصل المصادر ونتائج الأعمال وآثارها کلّها خارجة عن محطّ الإجارة، وهو واضح جدّاً.
وأ مّا مالیّة الأعمال کمالیّة حاصل المصادر ونتائج الأعمال فلیست ذاتیة، بل یعتبرها العقلاء باعتبار تعلّق الأغراض العقلائیّة بها، فالأعمال بالمعنی المصدری أموال لتعلّق الرغبات والأغراض بها.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 307
وإن شئت قلت: إنّ فی الأعمال کالخیاطة والنجارة وغیرهما اُموراًثلاثة: المَصدر، وحاصله ـ وهما متحدان وجوداً ومختلفان اعتباراً ـ ، والأثر المرتّب علیه المعلول له. والأوّلان موجودان متصرّمان متقضّیان لا بقاء لهما إلاّ بالاعتبار فی بعض الأحیان، والثالث ربّما یکون من الموجودات القارّة الباقیة.
فما وقع لدی العقلاء مورد الإجارة هو الشخص باعتبار عمله بالمعنی المصدری، ومفاد الإجارة أو لازمها انتقال عمل المؤجر إلی المستأجر، أی عمله بالمعنی المصدری، وهذا بعینه متعلّق التکلیف، سواء کان الشیء من النظامیّات أو غیرها، أو من قبیل القضاء أو غیره. فالواجب علی القاضی الحکم والقضاء بالمعنی المصدری، وهو الفاصل للخصومة، أو الواجب فصلها، وکلاهما فعلان اختیاریان، لکن الأوّل بلا وسط والثانی مع الوسط.
وأ مّا حاصل المصدر ونتائج الأعمال أی آثارها فلم یقعا مورد الإجارة، بل لامعنی له کما هو واضح.
وأ مّا المالیّة فلا یعقل أن تکون فی اسم المصدر لا فی المصدر، فإنّها قائمة اعتباراً بالأشیاء فی الوجود الخارجی أو بلحاظه، والفرض أنّ المصدر واسمه شیء واحد خارجاً وحقیقةً، فکیف یعقل أن یکون الشیء الواحد مالاً وغیر مال فی ظرف وحدته، فکأ نّه وقع الخلط بین المصدر واسمه وبین العمل وأثره.
ثمّ لو سلّمنا ما ذکره کان لازمه تصحیح إجارة مطلق الواجبات، نظامیّة کانت أو غیرها، ضرورة أنّ التکالیف الشرعیّة متعلّقة بأعمال المکلّفین بالمعنی المصدری، ولو قیل بصحّة تعلّقها بحاصل المصدر لکنّه یحتاج إلی دلیل وإلاّ فظاهر الأدلّة ما ذکر.
فحینئذ مورد تعلّق التکلیف غیر مورد تعلّق الإجارة، لأنّ موردها بزعمه هو حاصل المصدر أو نتیجة العمل، وهما غیر متعلّقین للتکلیف. فلو فرض أن یکون
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 308
شیء منها متعلّقاً لغرض العقلاء لابدّ من القول بصحّة الإجارة علیه. وحدیث عدم الحصول للمستأجر قد مرّ ما فیه، بل لازم کلامه أن یکون الاستیجار للمحرّمات صحیحة لولا دلیل آخر غیر ما تشبّث به، فتدبّر .
وبما مرّ من البیان تظهر الخدشة فی وجه افتراقه بین التکلیف فی باب الخمس والزکاة وبین التکلیف فی باب المخمصة بأنّ فی الأوّل تعلّق بالملک وفی الثانی بالإعطاء.
لما مرّ من عدم معنی لتعلّقه بغیر أعمال المکلّفین، ففی قوله ـ تعالی ـ: «آتُوا الزَّکاة» کقوله: «أَقِیمُوا الصَّلاة» تعلّق التکلیف بالإیتاء والإقامة بالمعنی المصدری.
فمتعلّق التکلیف فی باب الزکاة والخمس وباب الإعطاء فی المخمصة شیء واحد، والاختلاف بینهما فی أمرآخر، وهو أنّ ما وراء التکلیف فی باب الزکاة والخمس یکون اعتباران آخران:
أحدهما: جعل عشر الأموال الزکویة وخمس الغنائم لأربابهما بنحو الإشاعة، کما هو الأقوی، أو بغیره، أو بنحو جعل الحقّ کما قیل.
وثانیهما: اعتبار العهدة والدینیة فی نفس التکلیف علی الظاهر، ولهذا لایصحّ بیعهما ولا یصحّ أخذ الاُجرة علی إعطائهما، ولم یعتبر شیء منهما فی باب المخمصة فیصحّ بیع المال من المضطرّ والإعطاء بضمان، بل لایبعد صحّة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 309
أخذ الآخر علی الإعطاء علی إشکال.
تفصیل الشیخ بین الواجب العینی والکفائی
ومنها: ما أفاده الشیخ الأنصاری ـ قدّه ـ من التفصیل بین الواجب العینی وبین الواجب الکفائی، فمنع أخذ الاُجرة علی الأوّل دون الثانی، وجعل من الثانی أخذ الطبیب الاُجرة علی حضوره عند المریض إذا تعیّن علیه علاجه، فإنّ العلاج وإن کان معیّناً علیه إلاّ أنّ الجمع بینه وبین المریض مقدّمة للعلاج واجب کفائی علیه وعلی أولیائه، ومن الأوّل أخذها علی بیان الدواء إذا تعیّن علیه فلایجوز.
وأنت خبیر بأنّ ما ذکره لیس حلاً للإشکال الذی وقعنا فیه من أنّ الشهرة والسیرة علی جوازه فی الواجبات النظامیة مطلقاً من غیر تفصیل بین التعیّن بالعرض وغیره، ضرورة أنّ بناء العرف من المتشرعة وغیرهم علی أخذ الاُجرة وإعطائها بإزاء الطبابة والعلاج لا علی محض الحضور. نعم مع حضوره عند المریض یتزاید الأجر.
إن قلت: إنّ السیرة مستقرّة فی الواجبات الکفائیّة، ضرورة أنّ النظام قائم فعلاً، والقائم بأمره لا ینحصر حتّی یتعیّن علیه، والطبیب غیر منحصر فلا یتعیّن علیه.
قلت: کلاّ، فإنّ فی هذا العصر الذی کثر فیه الأطبّاء کثرة مدهشة لا یکون فی غالب القری وکثیر من صغار البلاد إلاّ طبیب واحد أو کحّال کذلک، وکذا سائر من قام به النظام، وکثیراً ما یتعیّن علی الطبیب العلاج، ولا یمکن للمریض
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 310
وأولیائه الإرجاع إلی الخارج ولا إحضار الطبیب منه، ومع ذلک لا یختلج فی ذهن أحد من المسلمین إلاّ من شذّ ممّن له حظّ من العلم عدم جواز أخذ الأجر علی طبابته، بل لو تفوّه أحد بذلک یعدّ من المنکَر .
هذا حال عصرنا، فکیف بسائر الأعصار الغابرة التی قلّ فیها الطبیب فضلاً عن المتخصّص، وکذا الحال فی سائر ما یحتاج قیام النظام إلیه.
ردّ إشکال المحقّق الإصفهانی علی الشیخ
والإنصاف أنّ ما ذکره ـ قدّس سرّه ـ مجرّد تصوّر غیر مطابق للواقع ولا دافع للإشکال.
لکن مع الغضّ عنه لا یرد علیه ما أورد علیه بعض أهل التحقیق من أنّ المتعیّن علی الطبیب إن کان الطبابة فلا یعقل أن تکون مقدّماتها واجباً کفائیّاً، ضرورة أنّ المقدّمة تابعة لذیها فلا یعقل وجوب ذی المقدمة تعیّناً علی أحد ووجوب مقدّماتها کفائیّاً.
وإن کان الواجب العلاج فیجب علی الطبیب بإعلام الدواء وعلی الأولیاء بالاستعلام، فهنا واجبان تعیّنیّان، ولکلّ مقدّمات تجب تعیّناً علیه، فلا وجوب کفائیّاً. انتهی ملخّصاً.
وفیه: أنّ الواجب النفسی فی المثال حفظ النفس، وهو واجب کفائیّ وله مقدّمات، منها العلاج أی بیان الدواء، وهو متعیّن علی الطبیب کما صرّح هو به فی أسطر قبل ذلک، وعلیه لو قلنا بأنّ الوجوب المقدّمی مترشّح من ذی المقدّمة علی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 311
جمیع المقدّمات الطولیّة والعرضیّة أی المقدّمات ومقدّمات المقدّمات فی عرض واحد، لأنّ الملاک متحقّق فی کلّها، فلا یلزم من تعیّن بعض المقدّمات علی بعض المکلّفین تعیّن مقدّمات مقدّماتها علیه. فإذا وجب حفظ النفس وجوباً مطلقاً علی جمیع المکَلّفین کفایة، اجتماعاً أو انفراداً، ترشح منه علی مبنی القوم وجوب مقدمیّ علی جمیع المقدّمات کالعلاج ومقدّماته وهکذا، ومع تعیّن بعض المقدّمات علی بعض عقلاً لعجز غیره لا تتعیّن مقدّمات اُخری علیه، سواء کانت مقدّمات بلا وسط أو معه.
نعم، لو قلنا بأنّ ترشّح الوجوب من ذی المقدمة إلی المقدّمات طولاً بمعنی أنّ الوجوب مترشح منه إلی المقدّمة بلا وسط، ومن المقدّمة إلی مقدمتها و هکذا، و یکون الوجوب المقدمی فی مقدمة المقدمة تابعاً للمقدمة فی الکفائیة والتعیّنیّة، لکان للإشکال وجه لکن المبنی غیر وجیه.
هذا علی مسلک القوم من ترشحیة وجوب المقدّمة عن ذیها قهراً، وعلّیة وجوبه لوجوبها.
ولکن علی مذهبنا من أنّ الوجوب المقدّمی علی فرضه مجعول اختیاری متوقّف علی مقدّمات ومبادئ کوجوب ذی المقدّمة یقع الکلام علی طور آخر ، ولعلّ لازمه عذم لزوم تبعیّة وجوب المقدّمة لذیها فی بعض الأطوار
ثمّ إنّ الشیخ الأنصاری تعرّض لنقوض اُخر غیر الطبابة، بعضها مربوط بالمقام وبعضها بالتعبّدیّات، منها جواز أخذ الوصی الاُجرة علی تولّی أموال الطفل الموصی علیه حتّی فیما تعیّن علیه العمل، فأجاب عنه سابقاً بأ نّه لا ینافی ما ذکرنا حکم الشارع بجواز أخذ الاُجرة بعد العمل علیه کما أجاز للوصی أخذ اُجرة المثل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 312
أو مقدار الکفایة، لأنّ هذا حکم شرعی لا من باب المعارضة.
وقال فی المقام: «وأ مّا أخذ الوصی الاُجرة علی تولی أموال الطفل فمن جهة الإجماع والنصوص المستفیضة علی أنّ له أن یأخذ شیئاً، وإنّما وقع الخلاف فی تعیینه، فذهب جماعة إلی أنّ له اُجرة المثل حملاً للأخبار علی ذلک، ولأ نّه إذا فرض احترام عمله بالنص والإجماع فلابدّ من کون العوض اُجرة المثل. وبالجملة فملاحظة النصوص والفتاوی فی تلک المسألة ترشد إلی خروجها عمّا نحن فیه». انتهی.
أقول: توهّم بعضهم المناقضة بین هذا ودلیله السابق، فإنّ مبنی السابق علی أ نّه حکم شرعی لا من باب العوض، واعترف فی المقام باحترام عمله بالنصّ والإجماع، فالعوض اُجرة عمله، بل هو مناقض لأصل دلیله علی حرمة أخذ الأجر علی الواجبات حیث تمسّک بعدم حرمة العمل المتعلّق للوجوب.
ویندفع بأنّ ما اعترف به هو قیام الإجماع والنصوص علی أصل الأخذ، وأ مّا کونه علی وجه اُجرة المثل فلم یعترف به بل حکاه عن جماعة فی تعیین مقداره وأنّ له اُجرة المثل للأخبار ولاحترام عمله، ولم یظهر ارتضاؤه بذلک، بل قوله: «وبالجملة فملاحظة النصوص...» ظاهر فی أنّ مدّعاه خروجها تخصّصاً لاتخصیصاً، فیرجع هذا إلی ما سبق منه. هذا.
ولکن الشأن فی أنّ الشارع المقدّس إن جعل الأجر بإزاء عمله فقد أذن فی أکل المال بالباطل، وهو لایلتزم به.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 313
والقول بأ نّه أجاز الأخذ مجاناً وبلا عوض وبلا لحاظ عمله خلاف الضرورة، مع أ نّه أیضاً من قبیل إجازة أکل المال بالباطل.
وقد تصدّی بعض المحقّقین لدفعه بما حاصله: «أنّ المقصود نفی اعتبار المعاوضة المالکیّة بین عمل الوصی بعد وجوبه علیه وبین ما رخّص فی أکله من مال الصغیر، بل اعتبار العوضیّة إنّما هو فی نظر الشارع قبل وجوبه. والوجوب والرخصة متفرّعان علیه، فاعتبار العوضیة قبل تعلّق الوجوب، وبهذا اللحاظ لیس أکلاً للباطل».
وفیه: أنّ اعتبار العوضیّة لشیء یکون فی ظرف تحقّقه مسلوب المالیّة أکل للمال بالباطل، ومالیّته قبل تعلّق الوجوب علیه، مع الإشکال فیها کما یأتی، وکذا صالحیّته لها فی نفسه لا تصحّح العوضیّة ولا تدفع بها الإشکال.
وبالجملة أنّ الترخیص فی أخذ المال إن کان بلا عوض ومجاناً وعلی صرف التعبّد فهو مع کونه خلاف القطع مرجعه إلی الإذن فی أکل المال بالباطل، وإن کان بلحاظ العمل الخارجی فالمفروض أ نّه خارج عن المالیّة بالإیجاب، وإن کان بلحاظ العمل تعلّق الوجوب فهو غیر متحقّق ولا یکون مالاً قبل تحققه لکون المفروض أنّ فی ظرف تحقّقه لا مالیّة له، وما کان کذلک لا یعقل اعتبار مالیّته قبل تحقّقه.
والإنصاف أنّ الوجه المذکور مع إعمال الدقّة فیه لا یفی بدفع الإشکال، مع أنّ ظاهر الفتاوی والمتفاهم من النصوص عرفاً هو جواز الأخذ فی مقابل العمل وإن اختلفوا فی أنّ مقدار المأخوذ هل هو اُجرة المثل أو قدر کفایته أو أقلّ الأمرین.
والتوجیه المتقدّم علی فرض صحّته فی نفسه لا یدفع الإشکال ولا ینطبق
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 314
علی الواقع، کالتوجیه الآخر لبعض أهل التحقیق، وهو أنّ الشارع اعتبر استحقاق الصغیر بعمل الوصی بعوض، فلا عوض علی الواجب، بل إیجاب العمل منبعث عن استحقاق الصغیر له، فهو من باب وجوب أداء ما یستحقّه الغیر.
وأنت خبیر بأنّ هذه التکلّفات والوجوه الاختراعیّة المخالفة للنصوص والفتاوی إنّما یتشبّث بها إذا ألجأنا دلیل عقلیّ قاطع علی ارتکابها. وقد تقدّم أنّ طریق التخلّص عن الإشکال المتقدّم لا ینحصر بما ذکره الشیخ، للوجه الذی قدّمناه فی مبنی حرمة أخذ الأجر علی الواجبات، ومعه لا یستکشف اعتبار الشارع لذلک الذی ادّعاه الموجِّه المتقدّم فی خلال کلامه، مع بعض مناقضات فیه أغمضنا عنه مخافة التطویل. فتحصّل ممّا مرّ أنّ دفاع الشیخ الأعظم غیر دافع. ومنها: وجوب بذل العوض علی المضطرّ فقد أجاب عنه الشیخ بأنّ العوض للمبذول لا للبذل.
وفیه ـ مضافاً إلی أنّ المضطرّ ربّما یضطرّ إلی عمل من الغیر ولا أظنّ بالتزامهم علی عدم جواز أخذ الأجر معه ـ أنّ مقتضی دلیله وهو أنّ جواز الاستیفاء قهراً وعلی رغمه یوجب سلب احترام عمله، مسلوبیّة احترام مال یقهر المالک علی إتلافه، بل قد یکون الإلجاء والاضطرار مؤدیاً إلی أن یکون المالک مباشراً لإتلافه کما لو اضطرّ إلی طلی دواء لا یتمکّن منه إلاّ مالکه فیلزم ویقهر علی الطلی والإتلاف ولا أظنّ بأحد الالتزام بالمجانیّة.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 315
فما فی تعلیقة بعض المحقّقین من إبداء الفرق بین الأعمال والأعیان، غیر وجیه.
ومنه یظهر الکلام فی جواز أخذ الاُم المرضعة اُجرة إرضاع اللباء إذا وجب علیها دفعاً وإشکالاً.
احتمال کون النیابة تنزیل النائب نفسه منزلة المنوب عنه
ومنها: أخذ الأجر علی العمل العبادی النیابی، فإن أخذه لو کان منافیاً للإخلاص لکانت العبادات الاستیجاریة علی وجه النیابة باطلة والاستیجار علیها باطلاً، والنصّ والفتوی متطابقان علی صحّتها وصحّته، فلا بدّ من الالتزام بعدم المنافاة.
ولقد تصدّی الشیخ الأعظم لدفع الإشکال وإبداء الفرق بین المقامین. ولا بأس بالإشارة إلی ماهیّة النیابة فی اعتبار العقلاء قبل التعرّض لدفاع الشیخ، لیتّضح ما یمکن أن یکون فارقاً بین المقامین:
فنقول: الظاهر اختلاف ماهیة الوکالة والنیابة فی اعتبارالعقلاء، فإنّ الوکالة عبارة عن تفویض أمر إلی الغیر وإیکاله إلیه، من غیر اعتبار کون الوکیل نازلاً منزلته فی الاعتبار أو عمله نازلاً منزلة عمله، وانتساب العمل إلی الموکّل باعتبار کونه فعلاًتسبیبیّاً له.
ففی الوکالة یکون الوکیل والموکّل ممتازین فی عالم الاعتبار، والفعل صادر مباشرة من الوکیل، وتسبیباً من الموکل. ولیست الوکالة فی العبادیات، فلا تصحّ فی الحج والصلاة وغیرهما ممّا هی أفعال عبادی مباشری، ونظیرها فی العرف حضور
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 316
أعیان المملکة فی الأعیاد لدی السلطان للسلام، فإنّه مع عذر بعضهم عن الحضور یقبل ذلک النیابة لا الوکالة لدی العقلاء وهو دلیل علی اختلافهما.
وأ مّا النیابة فی العمل فیحتمل تصوّراً أن تکون عبارة عن تنزیل شخص نفسه منزلة غیره فیه، بمعنی تبدیل شخصیة النائب بشخصیة المنوب عنه فی صقع الاعتبار، فتکون مبنیة علی إنساء النائب وإفنائه وتحوّل وجوده بوجودالمنوب عنه. کما فی باب الاستعارة علی المذهب الحقّ من کون بنائها علی تناسی التشبیه والمشبّه والمشبّه به، بل مبنیّة علی دعوی کون شخص أسداً حقیقة، فیحسن إثبات لوازم الأسد له ونفی لوازم غیره عنه.
وله أشباه فی العرف، کمجالس الشبیه والعزاء المعروفة فی بعض البلاد فصار شخص شمراً و آخر ابن زیاد إلی غیر ذلک، فإنّ فی تلک الصحنة تتبدّل الأشخاص بشخصیّات اُخر، فهی مبنیّة علی تناسی الشخصیّات الحقیقیة. ولها نظائر اُخر فی مجالس اللهو سیّما فی هذه الأعصار .
فحینئذ یکون ما صدر منه منتسباً إلی الشخصیّة الثانیة أی المنوب عنه ومسلوبة عن الاُولی، فلو کانت النیابة فی الأعمال کذلک لا یعقل أن یقع الأجر فی مقابل العمل، فإنّ صقع إتیانه صقع فناء النائب ووجود المنوب عنه فقط والعمل عمله ولا معنی للأجرفی عمل المنوب عنه.
وفی هذا الاعتبار لا یکون للعمل اعتباران، فإنّ النائب وعمله منسیّان، فالنائب هو المنوب عنه لیس إلاّ والعمل عمله لیس إلاّ.
فالاُجرة فی هذا الاعتبار تقع بإزاء تنزیل النائب شخصه منزلة المنوب عنه وتبدیل نفسه باُخری فی عمل، فصقع العمل لیس صقع اعتبار الاُجرة، إذ العمل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 317
عمل المنوب عنه فلا أجرله فی عمل نفسه لنفسه.
دفع إشکال أخذ الاُجرة علی اعتبار تنزیل الشخص
فبقی إشکالان:
أحدهما: أنّ الأجر إن کان بإزاء التنزیل لابدّ من استحقاقه بمجرّد التنزیل الذی هو أمر اعتباری وبناء قلبی، وإن کان بإزاء التنزیل والعمل یعود الإشکال وینهدم هذا الأساس، وکذا إن کان بإزاء التنزیل المقیّد بالعمل.
والجواب: أنّ الأجر بإزاء التنزیل فی العمل، وهو وإن لم یتحقّق إلاّ بالعمل ویتوقّف تحقّقه علیه لکن لا یکون العمل جزءاً أو قیداً له، نظیر أن یقع أجر علی إرادة ضرب زید بناءً علی عدم انفکاکها عن المراد خارجاً، فإنّ ذلک لا یوجب أن یکون الأجر بإزاء الضرب جزءاً أو قیداً.
ففرق بین جعل شیء جزءاً أو قیداً للمستأجر فیه، وبین توقف تحقّقه علیه. فما نحن فیه علی فرض کون النیابة هی ما تقدّم بیانها لا محیص عن کونه من قبیل الثانی، لعدم الجمع بین اعتبار النیابة بما ذکر، وبین کون العمل جزءاً أو قیداً، لأنّ اعتبار الجزئیّة والقیدیّة اعتبار کون العمل للمؤجر والنائب، وهو مضادّ لاعتبار النیابة.
وإن شئت قلت: إنّ العمل مترتّب علی التنزیل ومتأخّر عنه رتبة فلا یعقل تقیّده به للزوم صیرورة المتأخّرعن الشیء فی رتبته،تأ مّل.
أو قلت: إنّ النیابة مبنیّة علی التناسی فرضاً والتقیّد المذکور مبنی علی تذکّر العمل وهما متنافیان فالأجر فی مقابل التنزیل غیر المنفکّ من العمل.
وهذا بوجه نظیرقوله: «نیّة المؤمن خیر من عمله». بناءً علی کون المراد
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 318
منه أنّ العمل الموجود بنیّة أحد الجزئین التحلیلیین منه خیر من جزئه الآخر، حتی لا یرد علیه الإشکال المعروف، فکما أنّ الخیریّة للنیّة الملازمة للعمل من غیر دخالة العمل فی موضوع الأفضلیّة لعدم تعقّل دخالته، کذلک فی المقام یکون الأجر بإزاء النیابة فی العمل غیر المنفکّة عنه وغیر المتقیّدة به.
ثانیهما: أنّ الإخلاص لو کان معتبراً فی العمل طولاً وعرضاً فلا شبهة فی بطلان هذا العمل، لأنّ أخذ الأجر محرّک الفاعل حقیقة فی إتیان العمل، ضرورة أ نّه لولا الأجر لما نزّل نفسه منزلته ولولا التنزیل فی العمل لما عمل، فالعمل مستند إلی الأجر با لأخرة.
والجواب بالفرق بین کون شیء غایة لعمل أو غایة للعمل المغیی کباب الداعی علی الداعی علی ما تقدّم وبین کون شیء متوقّفاً علیه من غیر غائیته له.
مثلاً لو استأجره للمسافرة یکون السفر لأجل الاُجرة، ولازمه إتیان الصلاة قصراً، فیصحّ أن یقال: لولا الاُجرة لما صلّی قصراً، لأنّ القصر لأجل السفر والسفر للاُجرة.
لکن لیس هذا من قبیل ترتّب ذی الغایة علی غایته، بل من قبیل کون شیء من آثار المغیی وأحکامه.
ففی ما نحن فیه لم یجعل الأجر فی مقابل العمل النیابی علی ما تقدّم من أنّ العمل عمل المنوب عنه، ولا یعقل فیه الأجر فی اُفق الاعتبار، فلا یمکن أن یکون الأجر فی سلسلة غایاته.
نعم لولا الأجر لما صار النائب منوباً عنه ولاتتبدّل شخصیّته بشخصیّته
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 319
ولولا ذلک لما عمل.
وبالجملة مع التحفظ علی الاعتبار المتقدّم وعدم الخلط تندفع الإشکالات. إن قلت: إنّ ما ذکرت من الأمثلة اُمور تکوینیّة واقعیة، فأین هی من المورد الذی من الاعتباریات والتنزیلیّات؟ فالمحرّک الواقعی لیس التنزیل والدعوی، بل أمر واقعی هو الأجر.
قلت: بل المحرّک علی هذا الفرض هوالتنزیل وتبدیل الشخصیّة بناءً وذهناً، ولا شبهة فی مؤثریّته ومبدأیّته للإرادة والأعمال أحیاناً. ألا تری أنّ من نزل نفسه منزلة السلطان لعباً ولهواً یؤثّر ذلک فی نفسه بحیث یعمل أعماله، بل ربّما یحصل فی نفسه نحو تجبّر وتبختر ولیس ذلک إلاّ لکون هذا التنزیل والبناء مؤثّراً فی النفوس وصیرورته مبدأً للإرادة، بل مبدأها لیست الاُمور الخارجیّة وإنّما هو أمور ذهنیّة وإدراکات نفسانیّة وربّما تکون أمثال ما ذکر مؤثّرة فی النفس ومبدأ للإرادة والتحریک مع الغفلة والذهول عن الأجر رأساً.
وبالجملة بعد ما عرفت من عدم إمکان الجمع بین کون النیابة ما ذکرت وبین وقوع الأجر بإزاء العمل لا محیص عن الالتزام ببعض ما ذکرناه.
وممّا ذکرناه یظهر الخلط فی کلمات الشیخ الأعظم، حیث إنّه مع جعل اعتبار النیابة تنزیل الشخص منزلة المنوب عنه خلط فی لوازمه وجعل للعمل الخارجی عنوانین: أحدهما: کونه فعل النائب، والآخر: فعل المنوب عنه، مع أنّ لازم هذا الاعتبار عدم انتساب الفعل إلی النائب بوجه کما مرّ.
فقوله: «فالصلاة الموجودة فی الخارج علی جهة النیابة فعل للنائب» یناقض فی اُفق الاعتبار لقوله: «وفعل للمنوب عنه بعد نیابة النائب یعنی تنزیل نفسه
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 320
منزلة المنوب عنه»
فإنّ فعل النائب لیس إلاّ عملاً قلبیاً واعتباراً وادّعاء، نظیر الحقائق الادعائیّة لکنّه ملازم أو موقوف فی التحقق الخارجی علی العمل الخارجی. فالنیابة علی هذا المبنی لیست من الأعمال الخارجیّة ولا یمکن أن یکون العمل الخارجی فعلاً للنائب بعد التنزیل. وما ذکره ـ رحمه اللّٰه ـ مضافاً إلی مخالفته للاعتبار المتقدّم مستلزم لورود الإشکال السابق علیه، کما یأتی بیانه.
إمکان دفع إشکالات اُخر عن النیابة بناءً علی اعتبار تنزیل الشخص
ثمّ لو قلنا بأنّ حقیقة النیابة هی تنزیل الشخص مقام الشخص یمکن دفع بعض إشکالات اُخر عن النیابة فی العبادات:
منها: أنّ النائب لا أمر له بألنسبة إلی العمل، والأمر متوجّه إلی المنوب عنه حقیقة.
أ مّا الأمر الحقیقی فواضح، ضرورة أنّ الإضافات تشخّصها بتشخّص أطرافها فیستحیل خروجها من حدّ إلی حدّ، فلا یمکن أن یتخطّی الأمر المتوجّه إلی المنوب عنه منه إلی نائبه، ومعه لا یمکن انبعاثه لعدم تعقّل الانبعاث عن الأمر المتوجّه إلی الغیز
وأ مّا الانتساب الاعتباری التنزیلی بلحاظ تنزیل النائب منزلة المنوب عنه فلا یفید، لأنّ الانبعاث حقیقة لا یمکن إلاّ عن البعث الحقیقی، فمجرد التنزیل الاعتباری الادعائی لا یوجب توجّه الأمر إلیه حقیقةً، والتوجّه الادعائی لا یمکن
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 321
أن یصیر باعثاً حقیقة.
ویندفع بأنّ حقیقة النیابة إذا کانت لدی العقلاء ما تقدّمت، وقد أمضاها الشارع وأنفذها بالأخبار المتظافرة، کروایات ابن مسلم، وابن أبی یعفور، والبزنطی، وصفوان بن یحیی عن الصادق والرضا ـ علیهما السلام ـ «انّه یقضی عن المیت الحجّ والصوم والعتق وفعاله الحسن» ممّا هی ظاهرة فی صحّة النیابة وجوازها، یستکشف منهما، أی من الأخبار الممضیة ومن فرض کونها ما تقدّمت، التوسعة فی الأدلّة الواقعیّة من حیث توجّه التکلیف إلی الوجود التنزیلی توسعة حقیقیة بمقدار سعة دائرة الإمضاء والإنفاذ.
ففی الحجّ لولا دلیل النیابة قلنا بلزومه علی المستطیع مباشرة، ومع عجزه لایقوم غیره مقامه، لکن بعد قیام الدلیل بجوازها حیّاً فی حال عجزه ومیتاً نستکشف بسقوطه عنه بالإتیان الأعمّ بوجوده التنزیلی ویستکشفُ منه توجّه التکلیف بأعمّ.
لایقال: لازم ذلک وجوبه علی المتبرّع إذا نزل نفسه منزلته.
فإنّه یقال: نعم یجب علیه بما أ نّه المنوب عنه مادام تنزیله، ولهذا یجب علیه نیّة الوجوب لکن لا یجب علیه التنزیل ولا إدامته.
نعم، لو آجر نفسه للنیابة یجب علیه الوفاء بالإجارة بتنزیل نفسه منزلته فی العمل، ومعه ینوی الوجوب إن وجب علی المنوب عنه، ولو ترکه یعاقب علی ترک العمل بالإجارة إذا قلنا بوجوب الوفاء بالعقود، ولا یعاقب علی ترک الحجّ لأنّ التکلیف متوجّه إلی المنوب عنه لا النائب. وتوجّهه علیه بعد التنزیل توجّه إلی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 322
المنوب عنه أیضاً بوجوده التنزیلی، فمع إتیانه سقط عنه لإتیانه بوجوده التنزیلی، ومع ترکه بقی علی ذمّة المنوب عنه لا النائب.
وبالجملة لازم أدلّة النیابة توسعة التکلیف إلی الوجود التنزیلی، وهذه توسعة حقیقیّة ببرکة التحکیم والتعبّد، کما قلنا بنظیرها فی باب الإجزاء فی المأتی به بالتکلیف الظاهری، حیث قلنا بأنّ مقتضی ظواهر الأدلّة الأوّلیّة کقوله: «لا صلاة إلاّ بطهور» وإن کان اشتراط الصلاة مثلاً بالطهارة الواقعیّة لکن بعد تحکیم قوله: «کلّ شیء طاهر» علی أدلّة الشروط صارت النتیجة توسعة دائرة الشرط إلی الطهارة الظاهریّة، فالصلاة المأتی بها بالطهارة الظاهریّة مصداق حقیقی للصلاة ببرکة التعبّد والتوسعة المستکشفة بدلیل الأصل.
ففی المقام یکون توجّه التکلیف إلی الوجود التنزیلی حقیقیاً ببرکة استکشاف التوسعة من الأدلّة، فیکون الانبعاث عن البعث.
مع إمکان أن یجاب فی المقام بوجه آخر غیر مبنیّ علی ما ذکرناه، ومحصّله: عدم الاحتیاج إلی توجّه الأمر إلی الآتی بها بعد قیام الدلیل علی سقوطها عن عهدة المنوب عنه بإتیان النائب، نظیر أداء دین الغیر تبرّعاً، غایة الأمر یقصد فی المقام التقرّب والتعبّدیّة.
وممّا ذکرناه یظهر الجواب عن إشکال آخر، وهو أ نّه کیف یمکن تقرّب المنوب عنه بعمل النائب؟ فإنّ القرب المعنوی کالحسی، فکما أنّ قرب شخص من آخر مکاناً لا یوجب قرب غیره فکذلک فی القرب المعنوی.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 323
وفیه: أنّ القرب المعتبر فی العبادة لو کان من الحقائق الواقعیّة کالکمالات الروحانیّة من حصول نحو تنزّه وتجرّد عن المادّة لکان حصولها للمنوب عنه بفعل النائب ممتنعاً لکن لا یعتبر ذلک فیها جزماً. وأ مّا القرب الاعتباری وسقوط الأمر أو سقوط المکلّف به عن عهدته بفعل الغیر بمکان من الإمکان. ویستکشف ذلک کلّه من أدلّة النیابة، فالنائب یأتی بالفعل بما أ نّه منوب عنه فیحصل قرب المنوب عنه لا قرب نفسه، ولا وجه لحصول القرب له فی العمل عن غیره اللهمّ إلاّتفضّلاً، فهذا القرب الاعتباری لا مانع من حصوله مع قصد تحصیله للغیر، کما أنّ سقوط التکلیف أو المکلّف به ممکن، فقیاس القرب فی المقام بالقرب الحسّی مع الفارق.
مضافاً إلی أنّ اعتبار نیّة التقرّب أو حصول القرب فی العبادات غیر ظاهر، إذ لا دلیل علیه، فلا یعتبر فیها إلاّ الإخلاص وکونها للّٰه ـ تعالی ـ ، ومعه یسقط التکلیف أو المکلّف به عن عهدة المنوب عنه، وهذا موجب لامتیازه عن غیره ممّن یشتغل ذمّته، ویمکن أن یصیر ذلک موجباً للتفضّل علیه بإعطاء الثواب أو سقوط العقاب عنه.
بل یمکن أن یقال: إنّ عمل النائب عن المنوب عنه یوجب وصول صورة عمله البهیّة إلیه، کما ورد فی بعض الروایات: یدخل علی المیّت فی قبره الصلاة والصوم والحجّ والصدقة والدعاء.
احتمال کون النیابة تنزیل العمل لا تنزیل الشخص
ویحتمل أن تکون النیابة فی اعتبار العقلاء عبارة عن تنزیل العمل منزلة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 324
عمل المنوب عنه.
إمّا بأن یوجد العمل نازلاً منزلته ویکون بنفس وجوده عملاً للمنوب عنه فلا یکون منتسباً إلی النائب فی وعاء الاعتبار بوجه، فیکون الاُجرة للتنزیل لاللعمل.
وإمّا أن یکون التنزیل بعد تحقّق العمل، فیکون عند وجوده عملاً للنائب و بالتنزیل للمنوب عنه.
فعلی الأوّل تندفع الإشکالات المتقدّمة بنحو ما مرّ، بل لا یرد علی هذا الفرض إشکال استحقاق الاُجرة بنفس التنزیل، فإنّ التنزیل هاهنا تنزیل العمل فلا یمکن تحقّقه بغیره.
وإشکال المنافاة للإخلاص مندفع بأنّ الأجر فی مقابل التنزیل وهو غیر العمل وإن کان موقوفاً علیه، بل یظهر ممّا تقدّم عدم إمکان کون الأجر مقابل العمل فی الفرض أیضاً، لأنّ اعتبار تحقّق العمل عملاً للمنوب عنه ینافی اعتبار الأجر المتقوّم بکون العمل عملاً للأجیر فلا یعقل الجمع بین الاعتبارین فلا یعقل أن یکون الأجر بإزاء العمل، وقد مرّ أنّ التوقّف غیر الغائیة.
وهذا بوجه نظیرإعطاء الأجر للإفطار بالتمر مثلاً. فإنّ ذلک الأجر لا یعقل أن یقع بإزاء الصوم ولو قیداً، لأ نّه بإزاء ما یبطله أو ینتهی إلیه. فالصوم لا یکون بإزاء الأجر، ولو توقّف تحقّق استحقاق الأجر بتحقّق الصوم فلا یکون الأجر له ولاغایة له، ومجرّد التوقّف غیرمضرّ
وأ مّا مطالبة الأمر فی المقام للانبعاث ببعثه فقد تقدّم أ نّه لا تتوقّف صحّة العبادة علی الأمر. ففی المقام لمّا فرض کون النیابة عبارة عن قیام العمل مقام عمل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 325
المنوب عنه عرفاً فمنه ومن دلیل تنفیذ النیابة یعلم أنّ العمل النیابی موجب لسقوطه عن ذمّة المیّت، فیصیر ذلک موجباً لانبعاث المتبرّع إلی الإتیان عن جدّ، کما یستکشف منها صحّة الإجارة للنیابة وقد مرّإمکان حصولی التقرّب له.
وعلی الثانی أیضاً یمکن دفع الإشکالات: أ مّا أوّلها فبما مرّ.
وأ مّا قضیة الإخلاص فکذلک، بأن یقال: إنّ الاُجرة علی جعل العمل منزلة عمل المنوب عنه لا علی ذاته، نظیر أخذ الأجر علی إتیان عمل عبادی فی مکان کذا، فإنّ جعله فیه لیس عبادیاً معتبراً فیه الإخلاص.
إلاّ أن یقال: بالفرق بین ما کان ذات العمل مطلوباً متعلّقاً للأمر، فیکون القصد إلی إتیانه خالصاً وجعله فی مکان خاصّ غیر عبادی یصحّ أخذ الأجر علیه، وبین ما لا یکون العمل مطلوباً کالمقام، حیث لا یکون مطلوباً من النائب وإنّما هو فی ذمّة المنوب عنه، فإتیان النائب له بطمع الأجر لا للّٰه ـ تعالی ـ.
ففرق بین المقام والصورتین السابقتین، فإنّ فیهما یکون الأجر مقابل التنزیل ولایعقل جعله مقابل العمل کما مرّ، وأ مّا فی المقام فالعمل عمل النائب یأتی به لیجعله وسیلة لجلب النفع. فحینئذٍ لو قلنا بمقالة الشیخ من مخالفة ذلک للإخلاص فلا مفرّ منه.
وأ مّا الإشکالات الاُخر فیندفع بالتأ مّل فیما سبق.
ثمّ إنّ لوازم النیابة فی الصورتین الأخیرتین تخالف مع الصورة الاُولی، ففیهما لابدّ من مراعاة شرائط صلاة المنوب عنه لا شرائط نفسه بل النائب یراعی فی شرائط الفاعل ما هو تکلیفه، فلا یجب علی الرجل الإخفات أو الستر نحو ستر المرأة لو کان نائباً عنها، ویجوز الاقتداء به إن کان نائباً عنها أو عن المیّت، بخلاف
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 326
الصورة الاُولی.
التحقیق کون الاُجرة بإزاء العمل لا بإزاء التنزیل
ولکنّ الإنصاف أنّ ما لدی المتشرعة وسائر العقلاء وظاهر النصوص فی النیابة لیس شیئاً ممّا تقدّم، ضرورة أنّ الاستیجارإنّما یقع فی العمل عن الغیر فیأخذ الأجر ویقع فی عرف المتشرعة ارتکازاً وعملاً فی مقابل العمل عن الغیر، فیأخذه لیعمل الحجّ عن غیره، لا لتنزیل نفسه منزلة غیره فی العمل، ولا لتنزیل عمله کذلک، وهو واضح غیر قابل للخدشة، کما هو ظاهر الأخبار الواردة فی الحجّ عن الغیر.
ففی روایة عبد اللّٰه بن سنان، قال: کنت عند أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، إذ دخل علیه رجل فأعطاه ثلاثین دیناراً یحجّ بها عن إسماعیل، ولم یترک شیئاً من العمرة إلی الحجّ إلاّ اشترط علیه، حتّی اشترط علیه أن یسعی فی وادی محسّر ثمّ قال: «یا هذا، إذا أنت فعلت هذا کان لإسماعیل حجّة بما أنفق من ماله وکانت لک تسع بما أتعبت من بدنک».
ولعمری إنّها کالصریح فی کون الأجر فی مقابل العمل عنه.
فما تقدّم من التصوّرات أجنبیّة عن عمل المسلمین وعن مفاد النصوص کالروایة المتقدّمة وغیرها ممّا هی منقولة فی کتاب الحجّ التی هی ظاهرة الدلالة فی ذلک.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 327
فلابدّ من دفع الإشکال عن هذه الواقعة التی بید المسلمین ومفاد النصوص، وهو لا یندفع بما تقدّم ولا بما أفاده الشیخ الأنصاری، فیستکشف من النصوص صحّة العبادات الاستیجاریّة بنحو الداعی علی الداعی، ولا یرد علیها ما أوردناه علی الاستیجار فی عبادة نفسه کما لا یخفی.
وأ مّا الإشکال بأ نّه کیف یسقط عمل عن عهدة شخص بفعل آخر، وکیف یتقرّب المنوب عنه بفعل نائبه، فلیس موجهاً بعد قیام الدلیل، وتقدّم الوجه فیهما.
فتحصّل من ذلک أنّ النیابة فی الأعمال فی ظاهر الشریعة ولدی المتشرعة هی إتیان العمل عوض الغیر وبدله کأداء الدین عنه کما صرّح به فی روایة الخثعمیّة. فهل تری من نفسک أنّ المعطی لدین غیره وعن قبله ینزل نفسه منزلة نفسه أو عمله منزلة عمله.
وبالجملة لیس فی النصوص إلاّ نحو قوله: «یحجّ عنه» أو «یصلّی عنه»، و لیس مفاد ذلک إلاّ نحو قوله: «قضی دینه عنه».
ما یرد علی کلام العلاّمة الحائری والشیخ الأعظم فی المقام
وأ مّا ما أفاده شیخنا العلاّمة فی صلاته، ولعلّه یظهر من خلال کلمات الشیخ الأنصاری أیضاً، من أنّ المعتبر فی صحّة الإجارة قرب المنوب عنه
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 328
لا قرب العامل، فالإشکال بمنافاة أخذ الأجر للقربة المعتبرة فی العبادة کالجواب بالداعی علی الداعی فی غیر محلّه.
فغیر وجیه، لأنّ حصول القرب علی فرض اعتباره مترتّب علی العمل الخالص للّٰه ـ تعالی ـ ، فإن أتی به بعد الخلوص لنفسه تصیر مقرّبة، وإن أتی به لغیر یصیر الغیر مقرّباً، فلابدّ من لحاظ منشأ حصول القرب للمنوب عنه، ولیس هو إلاّ إتیان النائب العمل للّٰه. مع أنّ إتیانه للأجر ینافی کونه للّٰه ـ تعالی ـ ، فالأجر ینافی الإخلاص ومع عدمه لا یحصل القرب للمنوب عنه، ولهذا لو أتی الأجیر بالعمل ریاءً لا یقع عن المنوب عنه لعدم صلاحیّته لحصول القرب له، فالإشکال فی محلّه، وکذا الجواب.
وأ مّا الشیخ الأنصاری فلا تخلو کلماته عن اضطراب. فإنّ الظاهر من بعضها أنّ الأجر للعمل المأتی به تقرّباً إلی اللّٰه ـ تعالی ـ نیابة عن غیره.
وهو ظاهر فی کون الأجر فی مقابل العمل المقیّد، لکنّ الظاهر أ نّه غیر المقصود منه بقرینة سائر کلماته.
ویظهر من بعضها أنّ الصلاة الموجودة فی الخارج علی جهة النیابة فعل للنائب بجهة وللمنوب عنه بجهة.
والظاهر من مجموع کلماته أ نّه أیضاً غیر مراد، أی لا یعنی أنّ للصلاة وجودین اعتباراً حتی یرد علیه بأ نّه لیس لها وجود واحد ینسب إلی النائب بوجه وإلی المنوب عنه بوجه.
ویظهر من بعضها أنّ المنطبق علی الصلاة الموجودة فی الخارج علی وجه
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 329
النیابة عنوانان: أحدهما ذات الصلاة، وهی منسوبة إلی المنوب عنه بوجه، وثانیهما: نیابة النائب فی فعلها، وهی عنوان زائد علی ذات الصلاة یقع الأجر بازائه لا بإزاء ذات الصلاة.
والظاهر من مجموع کلماته بعد جعل بعضها قرینة علی بعض أنّ هذا مراده.
قال: «فالموجود فی ضمن الصلاة الخارجیّة فعلان: نیابة صادرة عن الأجیر النائب فیقال: ناب عن فلان، وفعل کأ نّه صادر عن المنوب عنه، فیمکن أن یقال علی سبیل المجاز: صلّی فلان، ولا یمکن أن یقال: ناب فلان. فکما جاز اختلاف هذین الفعلین فی الآثار فلا ینافی اعتبار القربة فی الثانی جواز الاستیجار علی الأوّل الذی لا یعتبر فیه القربة». انتهی.
وهذه العبارة قرینة علی مراده فی سائر الفقرات.
وکیف کان لو کان مراده تعدّد العمل کما توهّم فهو خلاف الواقع، لأنّ الصلاة المأتی بها واحدة حقیقة واعتباراً، وإنّما التعدّد فی انتسابها إلی النائب والمنوب عنه.
وإن کان مراده ما ذکرناه فهو مخالف لما علیه عمل المتشرعة وظاهر الشریعة، لما تقدّم من أنّ الأجر مجعول فی مقابل العمل فی عرف المتشرعة وهو الظاهر من الأخبار.
وبما ذکرناه یظهر النظر فی وجه آخر منسوب إلی الشیخ، وهو «أنّ النیابة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 330
عنوان یلحق الفعل المنوب عنه وبه یصیر متعلّقاً للإجارة، وهو کون الصلاة عن فلان، فالصلاة من حیث ذاتها عبادة ومن حیث وصفها أی کونها عن الغیر معاملة محضة نظیر الصوم والصلاة فی البیت». انتهی.
والظاهر أنّ ذلک أیضاً راجع إلی الوجه المتقدّم. ویرد علیه ما یرد علیه من أ نّه تصوّر وتخیّل غیر مربوط بما بید المتشرعة وعلیه عملهم وغیر موافق للظواهر، کما أنّ الظاهر رجوع الوجه الآخر المنقول عن رسالة القضاء إلی ذلک، وهو أنّ للصلاة قیدین: أحدهما: کونها عن قصد القربة، وثانیهما: کونها عن الغیر ویؤخذ الأجر علی هذا القید.
ویردّه ما یردّ سابقه مع أنّ تلک الوجوه لا تدفع أصل الإشکال، ضرورة أنّ المؤجر لا یأتی بالعمل خالصاً للّٰه ـ تعالی ـ ،وإنّما یأتی به طلباً وطمعاً فی الأجر، وبهذا یفترق فعل الأجیر لعمل الغیر عن فعله لعمل نفسه فی مکان کذا مثلاً. فأخذ الأجر لإتیان صلاته الفریضة فی مکان کذا لا یضرّ بالإخلاص إذا أخذه للخصوصیّة بعد تحقّق داعیه لإتیان فریضته، فالفرق بینهما واضح، والتخلّص عن الإشکال ما تقدّم.
فتحصّل ممّا مرّ صحّة العبادات الاستیجاریة. والسلام علی محمّد وآله.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 331
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 332