حرمة الولایة من قبل الجائر
المسألة السابعة: فی الولایة من قبل الجائر
الولایة من قبل الجائر محرّمة، کانت علی المحرّمات، أو المحلّلات، أو ما اختلط فیها المحرّم والمحلّل.
وذلک لأنّ السلطنة مجعولة بجعل اللّٰه تعالی لرسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم وبجعله تعالی أو بجعل رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم بأمره تعالی مجعولة لأمیر المؤمنین والأئمة الطاهرین من بعده.
وأساس السلطنة وشؤونها غیر أساس تبلیغ الأحکام الذی هو من شؤون رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم من حیث رسالته ونبوّته، ومن شؤون الأئمة بإرجاع رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم الاُمّة إلیهم فی أخذها بأمره تعالی بضرورة المذهب، وللروایات المتواترة من الفریقین، کحدیث الثقلین وحدیث سفینة نوح وغیرهما.
وإنّما وجب طاعتهم لکونهم سلاطین الاُمّة وولاة الأمر من قبل اللّٰه تعالی، لا لکونهم مبلّغین لأحکامه تعالی، لأنّ المبلّغ لها لا أمر ولا حکم له فیما یبلّغها، ولا یکون العمل طاعة له، بل الحکم من اللّٰه والإطاعة له، وإنّما أقواله وآراؤه کاشفات عن حکم اللّٰه تعالی.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 159
وأ مّا أوامرهم الصادرة منهم بما أ نّهم ولاة الأمر وسلاطین الاُمّة، فتجب إطاعتها لکونهم کذلک، ولکون الأمر أمرهم لا لکشفه عن أمر اللّٰه تعالی.
نعم، إنّما یجب طاعتهم لأجل أمر اللّٰه تعالی بها فی قوله: «أَطِیعُوا الله وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَاُولی الأمْرِ مِنکُمْ»، ولجعل السلطنة والولایة لهم من قبله تعالی.
ولو لا ذلک لم تجب، لأنّ السلطنة والولایة مختصّة باللّٰه تعالی بحسب حکم العقل، فهو تعالی مالک الأمر والولایة بالذّات من غیر جعل، وهی لغیره تعالی بجعله ونصبه.
وهذه السلطنة والخلافة والولایة من الاُمور الوضعیّة الاعتباریّة العقلائیّة. فالسلطنة بشؤونها وفروعها لهم من قبله تعالی، و لا یجوز لأحد التصرّف فیها وتقلّدها أصلاً وفرعاً، لأنّ تقلّدها غصب والتصرّف فیها وفی شؤونها، کائنة مّا کانت، تصرّف فی سلطان الغیر.
نعم، یمکن أن یقال: إنّ الغصب بما أ نّه الاستیلاء علی مال الغیر أو حقّه عدواناً، وعامل السلطان ولو من تقلّد من قبله أمر إمارة بلد، أو ولایة ناحیة، أو تقلّد أمر القضاء والوزارة ونحوها لیس مستولیاً علی شؤون السلطنة، بل الاستیلاء إنّما هو من السلطان وهو غاصب للخلافة والسلطنة بشؤونهما، وعمّاله أیادیه، ولیسوا مستولین علی شؤونها، حتّی الأمر الذی کانوا متولّین له بنصب من السلطان، بل هو نظیر غصب السلطان بلداً بوسیلة عمّاله، فإنّ الغاصب له هو السلطان لا غیر، وأیادیه لا یعدّون سلطاناً ومستولیاً علیه. ، وإن کان تصرّفهم فیه محرّماً بعنوان التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه.
ففی المقام إنّ تقلّد أمر من شؤون السلطنة والخلافة محرّم، لا بعنوان
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 160
الغصب بل بعنوان التصرّف فی سلطان الغیر بلا إذنه وعدواناً.
لکن ما ذکرناه مختصّ ظاهراً بمن تولّی منصباً من قبله، کالقضاء، والحکومة، والإمارة، بل والولایة علی الجبایة وسائر أنحاء المناصب، دون مثل الجندیّ، وخدمة الدوائر، ونظائرهم، للفرق بین شؤون السلطنة بفروعها، ومثل ما ذکر.
لأنّ تولّی الاُمور المتقدّمة تصرّف فی شؤون السلطنة، ولو لم یکن المتصرّف مستولیاً، ومع الاستیلاء غصب للشؤون، بخلاف مثل الخادم والجندی، فصیرورة شخص جندیّاً أو خادم دائرة، غیر تقلّد المناصب، لیست محرّمة لا بعنوان الغصب ولا بعنوان التصرّف فی سلطان الغیر .
فلا بدّ من التماس دلیل آخر علی حرمتها، ویأتی الکلام فی الروایات الخاصّة.
وممّا تقدّم یظهر النظر فیما یظهر من المحقّق صاحب الجواهر من أنّ الولایة علی المحلّل حلال لولا الأخبار الخاصّة، إذ ظهر أ نّها محرّمة مع الغضّ عنها لکن لا بعنوان ذاتها بل بعنوان التصرّف فی سلطان الغیر.
فلابدّ فی تقلّد شیء من المناصب وشؤون السلطنة من الإذن من ولاة الأمر أو المنصوب من قبلهم.
هل تکون الولایة بعنوانها فی بعض الأحیان واجبة أم لا؟
ثمّ إنّه یظهر منهم أنّ الولایة من قبل السلطان العادل الحقّ قد تصیر واجبة عیناً، إذا عیّنه أو یتوقّف القیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علیه، ومن قبل
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 161
الجائر تحرم إذا کانت علی محرّم، وکذا إذا کانت علی ما یشتمل علی محرّم ومحلّل، کالحکومة علی بعض البلدان المشتملة علی خراج، ونظام، وسیاسة، و محرّمات، کالکمرک وغیره إذا لم یأمن من اعتماد ما یحرم، والظاهر من التعبیرات أنّ الولایة بما ذکر صارت بعنوانها واجبة أو محرّمة.
فإن کان هذا الظاهر مراداً فهو غیر وجیه، لأنّ الوجوب فی الموردین لم یتعلّق بذاتها وعنوانها:
أ مّا فی الأوّل فلأنّ الواجب عنوان إطاعة السلطان العادل، لا عنوان الولایة، وهما عنوانان، ولا یلزم من وجوب أحدهما وجوب الآخر وإن کانا منطبقین علی الوجود الخارجی.
وقد قالوا نظیر ذلک فی غیر المقام، کوجوب الوضوء والغسل بالنذر والعهد و القسم. ویرد علیهم نظیر ما أوردناه فی المقام.
وأ مّا فی الثانی فمضافاً إلی عدم وجوب المقدّمة شرعاً، أ نّها لو کانت واجبة فالتحقیق أنّ الوجوب فی المقدّمة لم یتعلّق بما هی مقدّمة بالحمل الشائع وبالعناوین الذاتیة لها، بل یتعلّق بعنوان الموصل بما هو کذلک، کما هو محتمل کلام الفصول، وهو عنوان آخر غیر عنوان ذات المقدّمة.
فالولایة بعنوانها الذاتی لا تصیر واجبة إذا توقّف واجب علیه.
ولأنّ التولیة علی أمر محرّم لا توجب حرمتها، ولا تسری حرمة ذلک المحرّم
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 162
إلیها، لعدم وجه للسرایة. ومقدّمات الحرام لیست محرّمة لو فرضت کونها من مقدّماتها.
هذا مع قطع النظر عن الروایات الخاصّة الآتیة.
نعم، قد عرفت أ نّها من قبل الجائر محرّمة، سواء کانت علی محلّل أو محرّم بعنوان التصرّف فی سلطان الغیر.
دلالة بعض الروایات علی أنّ حرمة الولایة إنّما هی للتصرّف فی سلطان الإمام علیه السلام
وأ مّا الروایات فیظهر من بعضها أنّ حرمتها لما أشرنا إلیه:
کروایة أبی حمزة عن أبی جعفر ـ علیه السّلام ـ ، قال: سمعته یقول: «من أحللنا له شیئاً أصابه من أعمال الظالمین فهو له حلال، وما حرّمناه من ذلک فهو له حرام».
والظاهر أنّ المراد بما حرّمناه ذکر بعض مصادیق ما یقابل الجملة الأولی، لا إثبات قسم ثالث غیر مذکور، فیکون المراد ما لم نحلّل له فهو حرام.
ودلالتها علی المطلوب مبنیّة علی أن یکون المراد من شیء أصابه عملاً من أعمالهم، علی أن یکون «من أعمال الظالمین» بیاناً للشیء. فحاصل المعنی أنّ کلّ ولایة أو نحوها أصابها، موقوفة حلّیتها علی تحلیلنا، فتدلّ علی أنّ عدم الجواز فی غیر صورة التحلیل، بجهة التصرّف فی سلطانهم، ومع إجازتهم لا یکون التقلّد لها عدواناً فیحلّ.
لکنّ الأظهر أنّ المراد بالشیء الأموال التی أصابها من أعمالهم. فحینئذٍ
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 163
یحتمل أن یکون المراد منه ما یقع فی یده من الزکوات والغنائم وخراج الأراضی الخراجیّة، إلی غیر ذلک ممّا یکون جمعها والتصرّف فیها مختصّاً بوالی الحقّ، ویکون ولاة الجور ظالمین فی الأخذ والإعطاء فیها.
فتدلّ علی أنّ تجویزهم وتحلیلهم لما أصابوا موجب للحلّیة، لأنّ تحلیلهم إجازة لما أخذه من غیر حقّ، فیتعیّن زکاة وخراجاً بإجازتهم فی هذا المقدار، إذ إعطاء الزکاة والخراج لوالی الجور لا یوجب وقوعهما وتعینهما، لکونه غاصباً، ومع إجازة والی الحقّ یتعیّنان. وتحلیل ما أخذه المتقلّد لولایة، إجازة لما أخذه، فوقع زکاةً وخراجاً، فحلّ له.
وعلی هذا الاحتمال تدلّ بالملازمة علی أنّ تصرّفاتهم وتقلّدهم للولایة محرّمة، لأجل التصرّف فی سلطان الغیر.
وکذا لو کان المراد من شیء أعمّ منها ومن مجهول المالک. واحتمال اختصاصه بالثانی لا وجه له، لو لم نقل إنّ الظاهر اختصاصه بما تقدّم لظهور الحلّیة بالتحلیل فی أ نّه یکون لصاحب الحقّ.
وأظهر منها ما هی نظیرها عن الکشی فی رجاله عن أبی حمزة الثمالی، قال: سمعت أبا جعفر ـ علیه السّلام ـ یقول: «من أحللنا له شیئاً [أصابه] من أعمال الظالمین فهو له حلال، لأنّ الأئمّة منّا مفوَّض إلیهم، فما أحلّوا فهو حلال، وما حرّموا فهو حرام».
وعن اختصاص الشیخ المفید، عن محمّد بن خالد الطیالسی، عن
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 164
ابن عمیرة مثله.
فهی کما تری ظاهرة فی أنّ التحلیل متعلّق بالأعمال وتقلّدها. ولعلّ المراد بالتفویض تفویض السلطنة وشؤونها، فیکون تحلیلهم لحقّهم وأ نّهم ـ علیهم السلام ـ سلطان من قبل اللّٰه.
وعن السیّد هبة اللّٰه معاصر العلاّمة عن صفوان بن مهران، قال: کنت عند أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ إذ دخل علیه رجل من الشیعة، فشکا إلیه الحاجة، فقال له: «ما یمنعک من التعرّض للسلطان فتدخل فی بعض أعماله؟» فقال: إنکم حرّمتموه علینا. فقال: «خبّرنی عن السلطان لنا أو لهم؟» قال: بل لکم، قال: «أهم الداخلون علینا، أم نحن الداخلون علیهم؟» فقال: بل هم الداخلون علیکم، قال: «فإنّما هم قوم اضطرّوکم فدخلتم فی بعض حقّکم...».
وعن الاختصاص عن إسحاق بن عمّار، قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه ـ علیه السلام ـ عن الدخول فی عمل السلطان؟ فقال: «هم الداخلون علیکم، أم أنتم الداخلون علیهم؟» فقال: لا بل هم الداخلون علینا، قال: «لا بأس بذلک».
والظاهر منهما جواز دخول الشیعة فی أعمالهم لکونها حقّهم من قبل أئمّتهم، وأنّ ذلک نحو استنقاذ لحقّهم وحقّ أئمتهم. ولعلّ ذلک إذن عامّ أو کاشف عنه للشیعة الإمامیّة.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 165
ویؤیّد المطلوب روایة الحسن بن الحسین الأنباری، عن أبی الحسن الرضا ـ علیه السّلام ـ قال: کتبت إلیه أربع عشرة سنة أستأذنه فی عمل السلطان... حیث إنّ الظاهر منها معهودیّة لزوم الإذن منهم وأ نّه مع عدم الإذن لا یجوز الدخول ومعه یجوز. ولا معنی للاستئذان فیما یکون محرّماً ذاتاً، فلابدّ وأن یکون محللاً مع قطع النظر عن حقّهم علیهم السلام .
وروایة علیّ بن أبی حمزة، قال: کان لی صدیق من کتّاب بنی اُمیّة، ـ إلی أن قال: ـ فقال أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: «لولا أنّ بنی اُمیّة وجدوا لهم من یکتب ویجبی لهم الفیء، ویقاتل عنهم، ویشهد جماعتهم، لما سلبُونا حقّنا...».
والظاهر أنّ تعییرهم فی الدخول فی أعمالهم لأجل سلب حقّهم به، وفیها إشعار بأنّ الولایة لهم ولیس لغیرهم الدخول فیها.
وفیها احتمال آخر، وهو أنّ الدخول فی أعمالهم الموجب لشوکتهم وقوّتهم محرّم، لا لکونه مقدّمة للحرام، بل لتعلّق الحرمة علیه لتلک النکتة، فکانت غیر مربوطة بالروایات المتقدّمة.
وکیف کان الظاهر ممّا تقدّم أنّ عدم جواز التولیة لأجل حرمة التصرّف فی سلطانهم.
دلالة بعض الروایات علی حرمة الولایة ذاتاً
وهنا طوائف اُخری:
منها: ما تدلّ علی الحرمة الذاتیّة:
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 166
کروایة تحف العقول، وفیها: «فوجه الحلال من الولایة، ولایة الوالی العادل الذی أمر اللّٰه بمعرفته وولایته والعمل له فی ولایته». إلی أن قال: «فالولایة له، والعمل معه، ومعونته فی ولایته، وتقویته حلال محلّل، وحلال الکسب معهم، وذلک لأنّ فی ولایة والی العدل وولاته، إحیاء کلّ حقّ وکلّ عدل». إلی أن قال: «وأ مّا وجه الحرام من الولایة، فولایة الوالی الجائر، وولایة ولاته، الرئیس منهم وأتباع الوالی فمن دونه من ولاة الولاة إلی أدناهم باباً من أبواب الولایة علی من هو وال علیه، والعمل لهم والکسب معهم بجهة الولایة لهم حرام ومحرم، ومعذّب من فعل ذلک علی قلیل من فعله أوکثیر، لأنّ کلّ شیء من جهة المعونة له معصیة کبیرة من الکبائر، وذلک أنّ فی ولایة الوالی الجائر، دوس (دروس، خ. ل) الحقّ کلّه وإحیاء الباطل کلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الکتب، وقتل الأنبیاء والمؤمنین، وهدم المساجد، وتبدیل سنّة اللّٰه وشرائعه، فلذلک حرم العمل معهم، ومعونتهم، والکسب معهم، إلاّ بجهة الضرورة، نظیر الضرورة إلی الدم والمیتة...».
ولا یخفی أ نّها ظاهرة الدلالة علی الحرمة ذاتاً. وما ذکر فیها من العلل علل للتشریع، فکأ نّه قال: لمّا کانت المفاسد العظیمة مترتّبة علی الولایة من قبل الجائر . وأنّ الحکومات الجائرة الباطلة منشأ کلّ مفسدة، حرّمها اللّٰه تعالی وحرّم الدخول فیها فی أعمالهم والولایة من قبلهم، وإلاّ فالمفاسد المذکورة لم تترتّب علی کلّ ولایة، ضرورة أنّ فی عصر بنی اُمیّة وبنی العباس ـ لعنهم اللّٰه ـ لم یکن نبیّ، لکنّ المنظور بیان علّة التشریع کلّیاً، فدلالتها علی الحرمة الذاتیّة غیر خفیّة.
وروایة زیاد بن أبی سلمة، قال: دخلت علی أبی الحسن موسی ـ علیه السّلام ـ
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 167
ـ إلی أن قال: ـ فقال لی: «یا زیاد! لأن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة قطعة، أحبّ إلیّ من أن أتولّی لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم، إلاّ لماذا؟» قلت: لا أدری جعلت فداک. قال: «إلاّ لتفریج کربة عن مؤمن، أو فکّ أسره، أو قضاء دینه. یا زیاد، إنّ أهون ما یصنع اللّٰه عزّ وجلّ بمن تولّی لهم عملاً، أن یضرب علیه سرادق من نار إلی أن یفرغ اللّٰه عزّ وجلّ من حساب الخلائق».
دلالتها علی الحرمة الذاتیّة لأجل أنّ أبا الحسن ـ علیه السّلام ـ مع کونه ولی الأمر وصاحب الحقّ، قال ما قال، وعلّله بما ذکر، واستثنی ما استثنی، فلو کانت الحرمة للتصرّف فی حقّهم فقط، لما کان لذلک کلّه وجه.
وموثّقة مسعدة بن صدقة، قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ عن قوم من الشیعة یدخلون فی أعمال السلطان، یعملون لهم ویجبون لهم ویوالونهم؟ قال: «لیس هم من الشیعة ولکنّهم من أولئک» ثمّ قرأ أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ هذه الآیة «لُعِنَ الّذینَ کَفَرُوا مِنْ بَنِی إِسرائیلَ عَلی لِسانِ داوُدَ وَ عِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ» إلی أن قال: «ثمّ احتجّ اللّٰه علی المؤمنین الموالین للکفّار فقال: «تَریٰ کَثیراً مِنْهُمْ یَتَوَلّوْنَ الّذینَ کَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ» إلی قوله: «وَلکِنَّ کَثیراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» فنهی اللّٰه عزّ وجلّ أن یوالی المؤمن الکافر إلاّ عند التقیّة».
والظاهر من استثناء التقیّة أنّ المراد بالموالاة لیس المحبّة والوداد، بل التولّی للاُمور والتصدّی لأعمالهم، أو الأعمّ منه ومن الموالاة ظاهراً بإظهار المحبّة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 168
والوداد، سیّما مع أنّ الظاهر من صدرها أنّ نفی التشیّع عن الجماعة، لیس لخصوص الموالاة، بل الظاهر أنّ من عمل لهم ودخل فی أعمالهم لیس من الشیعة ویکون منهم، ومعلوم أنّ هذا النفی والإثبات بوجه من التأویل، وذلک لاشتراکهم حکماً.
ودلالتها علی الحرمة الذاتیة واضحة.
وروایة سلیمان الجعفری، قال: قلت لأبی الحسن الرضا ــ علیه السّلام ـ: ما تقول فی أعمال السلطان؟ فقال: «یا سلیمان، الدخول فی أعمالهم، والعون لهم، والسعی فی حوائجهم، عدیل الکفر...».
والظاهر منها أنّ الثلاثة المذکورة محرّمة بعناوینها. واحتمال أن تکون الحرمة فی الدخول فی أعمالهم لأجل التصرّف فی سلطان الغیر بعید.
ومن هذا القبیل الروایات المستفیضة عن الرضا ـ علیه السّلام ـ حین سألوه عن وجه الدخول فی ولایة العهد، فأجاب بأنّ التقیّة أوجبت ذلک وإن یحتمل فیها أن یکون جوابه کذلک، لحفظ قلوب المستضعفین الظانّین بأنّ الدخول فیها مناف للزهد، کما یشعر به بعض الروایات أو لکون الدخول تقویة لسلطان الجور وتثبیت سلطانه، فأجاب بما أجاب ـ علیه الصلاة والسلام ـ.
ومن هذا القبیل روایة ابن بنت الکاهلی وغیرها عن أبی عبداللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، قال: «من سوّد اسمه...».
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 169
والمراد الدخول فی دیوانهم والتقلّد لأعمالهم أعمّ من التولیة وغیرها. والظاهر منها أنّ الدخول والتقلّد محرّم بذاته، لا أنّ الحرمة لانطباق عنوان محرّم علیه کالتصرّف فی سلطان الغیر، أو لأمر خارج کالابتلاء بالمحرّمات فیها.
دلالة بعض الروایات علی أنّ الحرمة لأمر خارج
ومنها: ما تدلّ علی أنّ الحرمة لأمر خارج.
کصحیحة أبی بصیر، قال: سألت أبا جعفر ـ علیه السّلام ـ عن أعمالهم؟ فقال لی: «یا أبا محمّد، لا، ولا مدّة قلم. إنّ أحدکم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلاّ أصابوا من دینه مثله» أو «حتّی یصیبوا من دینه مثله». الوهم من ابن أبی عمیر.
والظاهر منها أنّ النهی عن الدخول فی أعمالهم للإرشاد إلی حفظ دینهم، وأنّ الدخول فیها والإصابة من دنیاهم ملازم لإصابتهم من دینه، إمّا لملازمته للمعصیة نوعاً، أو لإرجاع الاُمور المحرّمة إلیه، أو لحصول المحبّة والوداد لهم قهراً. ونحوها روایة جهم بن حمید، قال: قال أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: «أما تغشی سلطان هؤلاء؟» قال: قلت: لا. قال: «و لم؟» قلت: فراراً بدینی، قال: «وقد عزمت علی ذلک؟» قلت: نعم. قال لی: «الآن سلم لک دینک».
وروایة داود بن زربی، قال: أخبرنی مولی لعلی بن الحسین ـ علیه السّلام ـ قال: کنت بالکوفة فقدم أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ الحیرة فأتیته فقلت: جعلت فداک، لو کلّمت داود بن علیّ أو بعض هؤلاء، فأدخل فی بعض هذه الولایات؟ فقال: «ما کنت لأفعل» إلی أن قال: جعلت فداک، ظننت أ نّک إنّما کرهت ذلک مخافة أن
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 170
أجور وأظلم، وانّ کلّ امرأة لی طالق، وکلّ مملوک لی حرّ، وعلیّ وعلیّ إن ظلمت أحداً أو جرت علیه وإن لم أعدل. قال: «کیف قلت؟» فأعدّت علیه الأیمان، فرفع رأسه إلی السماء فقال: «تناول السماء أیسر علیک من ذلک».
بناء علی أنّ المراد أ نّه أیسر من العدل، کما هو الأرجح، فتکون دالّة أو مشعرة بالمطلوب.
ومنها: ما هی ظاهرة فی الحرمة بلا عنوان، وإن لا یبعد دعوی دلالتها علی الحرمة ذاتاً، فتکون من الطائفة السالفة:
کصحیحة الولید بن صبیح، قال: دخلت علی أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ فاستقبلنی زرارة خارجاً من عنده، فقال لی أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: «یا ولید، أما تعجب من زرارة؟ سألنی عن أعمال هؤلاء، أیّ شیء کان یرید؟ أیرید أن أقول له: لا؟ فیروی ذلک علیّ؟» ثمّ قال: «یا ولید، متی کانت الشیعة تسألهم عن أعمالهم؟ إنّما کانت الشیعة تقول: یؤکل من طعامهم ویشرب من شرابهم، ویستظل بظلّهم، متی کانت الشیعة تسأل عن هذا؟».
وروایة یحیی بن إبراهیم، قال: قلت لأبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: فلان یقرأک السلام، وفلان وفلان. فقال: «وعلیهم السلام» قلت: یسألونک الدعاء. قال: «وما لهم؟» قلت: حبسهم أبوجعفر. فقال: «وما لهم؟ وما له؟» فقلت: استعملهم فحبسهم. فقال: «فما لهم؟ وما له؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ ألم أنههم؟ هم النار، هم النار، هم النار» ثمّ قال: «اللهمّ اجدع عنهم سلطانهم». قال: وانصرفنا [فانصرفنا. خ. ل] من مکّة فسألنا عنهم، فإذاً قد أخرجوا بعد الکلام، بثلاثة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 171
أیّام. إلی غیر ذلک.
عدم المنافاة بین الأخبار
ثمّ إنّ هذه الطوائف لا منافاة بینها:
أ مّا الأخیرة مع ما دلّت علی الحرمة الذاتیّة فواضح.
وأ مّا مع ما دلّت علی الحرمة لأجل التصرّف فی سلطانهم، فلعدم المنافاة بین حرمتها ذاتاً ومن حیث التصرّف المذکور، فإنّهما عنوانان مختلفان فی محطّ تعلّق الحکم ومتّحدان خارجاً، فلکلّ حکم مستقلّ.
وقوله: «من أحللنا شیئاً من أعمال الظالمین فهو حلال» لا دلالة له علی عدم الحرمة ذاتاً للولایة، ولا علی تحلیلهم ما حرّمه اللّٰه تعالی ذاتاً أو جواز ذلک لهم. بل لما کان فی التحریم الذاتیّ استثناء کما سیأتی إن شاء اللّٰه، یکون فی مورد الاستثناء منه أیضاً احتیاج إلی تحلیلهم. فإنّ الحلّیة الشرعیّة الذاتیّة الأوّلیة لا تنافی الحرمة من حیث الغصب أو التصرّف فی حقّ الغیر.
وبالجملة إنّ قوله: «من أحللنا...» لا یتعرّض لمورد التحلیل ولا لجوازه مطلقاً، ومعلوم أ نّهم لا یحلّلون ما حرّمه اللّٰه تعالی، لکن فی مورد تحلیل اللّٰه لا تحلّ إلا بإذنهم ورضاهم.
فلا منافاة بین تلک الطائفة، وبین ما دلّت علی الحرمة الذاتّیة أو علی الحرمة بلا عنوان.
وأ مّا بعض ما تقدّمت ممّا دلّت علی استئذانهم فی الدخول الظاهر منه أ نّه محلّل، مع قطع النظر عن الاستئذان منهم، فمحمول علی الاستئذان فی مورد
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 172
الاستثناء عن الحرمة ذاتاً، کما تشعر أو تدلّ علیه بعضها.
وقد أشرنا إلی أ نّه لا إطلاق فیها یشمل مطلق التولّی والتقلّد، فإذاً لا منافاة بینهما بوجه.
وکذا بینها وبین ما تشعر أو تدلّ علی الإرشاد، فإنّ غایة ما فیها عدم الدلالة علی الحرمة ذاتاً لا الدالة علی عدمها. فلو کان فیها إشعار به فلا یقاوم ظهور غیرها، کما لا یخفی.
فتحصّل من جمیع ذلک أنّ ما هو من قبیل المناصب والولایات وأمثالهما تحرم بعنوانین: أحدهما بعنوان التصرّف العدوانی، وثانیهما بعنوانها الذاتیّ. وما لا یکون کذلک، أی لیس من المناصب وشؤون السلطنة والحکومة، تحرم فیما تحرم بجهة واحدة، وهی الدخول فی أعمال السلطان، وقد تقدّم المراد منه.
هذا إذا لم تنطبق علیه عناوین اُخر، کإعانة الظالم فی ظلمه، وتقویة شوکة الظالمین ونحوهما.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 173