المقدّمة
أ مّا ا لمقدّمـة ففیها جهات من ا لبحث :
الاُولیٰ: فی تحدید المفهوم العرفی للنظافة والنجاسة
ا لظاهر أنّ ا لنجاسـة وا لقذارة ا لعرفیـة ، أمر وجودی مقابل ا لنظافـة وا لنقاوة ؛ فإنّ ا لأعیان ا لخارجیـة علیٰ قسمین :
أحدهما : ما هو قذر ورجس ، وهو ما یستکرهـه ا لعقلاء ویستقذرونـه ، ویتنفّرون منـه ، کا لبول وا لغائط وا لمنیّ وا لنخامـة ، وأمثا لها ممّا تجتنب منها ا لعقلاء ؛ لتنفّرهم منها ومن ا لتماس معها .
وثانیهما : ما لیس کذلک ، کسائر ا لأعیان . وا لثانی نظیف نقیّ ، لا بمعنیٰ أنّ ا لنظافـة أمر وجودی قائم بذاتها وراء أوصافها وأعراضها ا لذاتیـة ، فا لحجر وا لمدر وا لجصّ وأمثا لها بذاتها نظیفـة ؛ لیست بقاذورة یستکرهها ا لناس ، وإنّما تصیر ـ بملاقاتها مع بعض ا لأعیان ا لقذرة وتلطّخها بها ـ نجسةً قذرة با لعرض ، ویستقذرها ا لناس لتلک ا لمماسّـة وذلک ا لتلطّخ . فا لأشیاء کلّها ـ ما عدا ا لأعیان ا لقذرة ـ نظیفـة ؛ أی نقیـة عن ا لقذارة .
فا لنظافـة هی کون ا لشیء نقیّاً عن ا لأقذار ، فإذا صارت ا لأشیاء بملاقاتها
قذرة فغسلت با لماء ، ترجع إ لیٰ حا لتها ا لأصلیـة ؛ أی ا لنقاوة عنها ، من غیر أن یحصل لها أمر وجودی قائم بها خارجاً أو اعتباراً .
وما ذکر موافق للاعتبار وا لعرف ، وهو ظاهر ، وکذا موافق للّغـة ، ففی «ا لصحاح» : «ا لنظافـة : ا لنقاوة ، ونظّفتـه أنا تنظیفاً ؛ أی نقّیتـه» .
وفـی «ا لقامـوس» : «ا لنظافـة : ا لنقاوة ، وهـو نظیف ا لسـراویل ، وعفیف ا لفرج» انتهیٰ .
وا لظاهر أنّ «نظیف ا لسراویل» کنایـة عن عدم ا لتلطّخ بدنس ا لزنا ومثلـه .
وفی «ا لمجمع» : «ا لنظافـة : ا لنقاوة ، ونظُف ا لشیء ینظُف ـ با لضمّ ـ نظافـة : نقی من ا لوسخ وا لدنس» .
وفی «ا لمنجد» : «نظُف ا لشیء : کان نقیّاً من ا لوسخ وا لدنس ، یقا ل : فلان نظیف ا لسراویل ؛ أی عفیف ، ونظیف ا لأخلاق ؛ أی مهذّب ، وتنظّف ا لرجل ؛ أی تنزّه عن ا لمساوئ» .
هذا حا ل ا لقذارات ا لعرفیة ، ویأتی ا لکلام فی حا ل اعتبار ا لشارع وحکمه .
الثانیة: فی انقسام النجاسة شرعاً إلیٰ مجعولة وغیر مجعولة
یحتمل فـی بادئ ا لنظـر أن تکون ا لنجاسـة مـن ا لأحکام ا لـوضعیـة ا لشـرعیـة للأعیان ا لنجسـة عنـد ا لشارع ؛ حتّیٰ فیما هـو قـذر عند ا لعـرف کا لبول وا لغائـط ، فتکـون ا لنجاسـة قـذارة اعتباریـة غیـر ما لـدی ا لعـرف
بحسب ا لحقیقـة ، مـوضوعةً لأحکام شـرعیـة.
ویحتمل أن تکون أمراً انتزاعیاً من ا لأحکام ا لشرعیـة ، کوجوب ا لغسل ، وبطلان ا لصلاة معها وهکذا .
ویحتمل أن تکون أمراً واقعیّاً غیر ما یعرفها ا لناس ، کشف عنها ا لشارع ا لمقدّس ، ورتّب علیها أحکاماً .
ویحتمل أن تکون ا لأعیان ا لنجسـة مختلفـة بحسب ا لجعل ؛ بمعنیٰ أنّ ما هو قذر عرفاً ـ کا لبول وا لغائط وا لمنیّ ـ لم یجعل ا لشارع لها ا لقذارة ، بل رتّب علیها أحکاماً ، وما لیس کذلک کا لکافر وا لخمر وا لکلب ، ألحقها بها موضوعاً ؛ أی جعل واعتبر لها ا لنجاسـة وا لقذارة ، فیکون للقذارة مصداقان : حقیقی وهو ا لذی یستقذره ا لعرف ، واعتباری جعلی کا لأمثلـة ا لمتقدّمـة وغیرِها من ا لنجاسات ا لشرعیـة ا لتی لایستقذرها ا لناس لو خلّیت طباعهم وأنفسها .
أو ألحقها بها حکماً ؛ أی رتّب علیها أحکام ا لنجاسة من غیرجعل نجاسة لها .
وا لظاهر بحسب ا لاعتبار بل ا لأدلّـة ، هو احتما ل ما قبل ا لأخیر ؛ لأنّ ا لظاهر أ نّـه لم یکن للشارع اصطلاح خاصّ فی ا لقذر وا لنجس ، فما هو قذر ونجس عند ا لعقلاء وا لعرف ، لا معنیٰ لجعل ا لقذارة لـه ؛ لأنّ ا لجعل ا لتکوینی محا ل ، واعتباراً آخر ـ نظیر ا لتکوین ـ لغو ، ولیست للنجاسـة وا لقذارة حقیقـة واقعیـة لم یصل إ لیها ا لعرف وا لعقلاء ، کما هو واضح .
نعم ، لمّا کان ا لعرف یستقذر أشیاء لم یکن لها أحکام ا لنجاسات ا لإلزامیـة ـ وإن استحبّ ا لتنزّه عنها وا لتنظیف منها ، کا لنخامـة وا لمذی وا لوذی ـ یکشف ذلک عن استثناء ا لشارع إیّاها موضوعاً أو حکماً .
وأ مّا ا لنجاسات ا لشرعیـة ا لتی لیست لـدی ا لعرف قـذرة نجسـة ـ کا لخمر وا لکافـر ـ فا لظاهـر إ لحاقها بها موضـوعاً ، کما هـو ا لمرتکز عند ا لمتشرّعـة ؛
فإنّها قـذرة عندهم کسائر ا لأعیان ا لنجسـة . ولقولـه تعا لـیٰ : «إنَّمَا ا لْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَیَقْرَبُوا ا لْمَسْجِدَ ا لْحَرَامَ» ، فإنّ ا لظاهـر منـه تفریـع عدم قربهم ا لمسجد علیٰ نجاستهم.
بل وقولـه تعا لیٰ : «کَذٰلِکَ یَجْعَلُ الله ُ ا لرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لاَیُؤْمِنُونَ» ، فإنّ ا لرجس ا لقذر ، وظاهره أ نّـه تعا لیٰ جعلهم رجساً .
وقولـه تعا لیٰ : «قُلْ لاَ أجِدُ فِیمَا أُوحِیَ . . .» إ لیٰ قولـه : «أوْ لَحْمَ خِنْزِیرٍ فإنَّـهُ رِجْسٌ» .
ولحسنـة خَیْران ا لخادم قا ل : کتبت إ لی ا لرجل أسألـه عن ا لثوب یصیبـه ا لخمر ولحم ا لخنزیر ، أیصلّیٰ فیـه أم لا ؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فیـه ، فقا ل بعضهم صلّ فیـه : فإنّ الله إنّما حرّم شربها ، وقا ل بعضهم : لاتصلّ فیـه ، فکتب : «لاتصلّ فیـه ؛ فإنّـه رجس» .
فإنّ ا لتعلیل دلیل علیٰ أنّ عدم صحّـة ا لصلاة فیـه لأجل کون ا لخمر رجساً ، فلاتکون نجاستها منتزعـة من ا لأحکام ، ولمّا لم تکن ا لخمر رجساً عرفاً ولدی ا لعقلاء ، فلا محا لـة تکون نجاستها مجعولـة شرعاً .
وصحیحـةِ أبی ا لعبّاس ، وفیها : أ نّـه سأل أبا عبدالله علیه السلام عن ا لکلب . فقا ل : «رجس نجس ؛ لایتوضّأ بفضلـه» .
وا لتقریب فیها کسابقتها .
وقریب منها صحیحتـه ا لاُخریٰ ، وحسنـة معاویـة بن شُریح .
فتحصّل ممّا ذکر : أنّ ا لنجاسات علیٰ نوعین :
أحدهما : ما یستقذره ا لناس ، وقد رتّب ا لشارع علیـه أحکاماً .
وثانیهما : ما جعلـه ا لشارع قذراً ، وألحقـه بها موضوعاً بحسب ا لاعتبار وا لجعل ، فصار قذراً فی عا لم ا لجعل ووعاء ا لاعتبار ، ورتّب علیـه أحکام ا لقذر .
الثالثة: فی اختلاف ملاکات جعل النجاسة للموضوعات
ا لظاهر أنّ جعل ا لقذارة للموضوعات ا لتی لیست قذرة عند ا لناس ، لیس بملاک واحد . کما أنّ ا لظاهر عدم قذارة واقعیّـة لها لم یطلع علیها ا لناس ، وکشف عنها ا لشارع ؛ ضرورة أنّ ا لقذارة لیست من ا لحقائق ا لمعنویـة ا لغائبـة عن أبصار ا لناس ومدارکهم .
بل ا لظاهر أنّ جعل ا لقذارة لمثل ا لخمر لأجل أهمّیـة ا لمفسدة ا لتی فی شربها ، فجعلها نجسـة لأن یجتنب ا لناس عنها غایـة ا لاجتناب . کما أنّ ا لظاهر أنّ جعل ا لنجاسـة للکفّار لمصلحـة سیاسیـة ؛ هی تجنّب ا لمسلمین عن معاشرتهم ومؤاکلتهم ، لا لقذارة فیهم تؤثّر فی رفعها کلمـة ا لشهادتین .
ولعلّ فی مباشرة ا لکلب وا لخنزیر ، مضرّات أراد ا لشارع تجنیبهم عنهما تحفّظاً عنها . . . إ لیٰ غیر ذلک .
ولا أظنّ إمکان ا لالتزام بأنّ ا لقذارة عند ا لشارع ، ماهیـة مجهولـة ا لکنـه یصیر ا لمرتدّ بمجرّد ا لردّة قذراً واقعاً ، وصارت ا لردّة سبباً لاتصافـه تکویناً بصفـة وجودیـة تکوینیـة غائبـة عن أبصارنا ، ومجرّد ا لإقرار با لشهادتین صار سبباً لرفعها تکویناً .