الأمر السابع فی الهیئات
لا إشکال فی أنّ اللغات الراقیة المتداولة کافلة لکافّة احتیاج البشر فی الإفادة والاستفادة، وممّا یحتاج إلیه احتیاجاً مبرماً إفهام المعانی التصدیقیّة وما هو من شؤونها، بل أغراض المتکلّمین تحوم نوعاً حول إفادتها، فلا یمکن إهمال ذلک فی اللغات، ولم تکن تلک الدلالة إلاّ بالجعل والمواضعة، وإنّما الکلام فی الدالّ علیها:
فالمشهور أنّ هیئات الکلام متکفّلة بذلک، فهیئة الجملة الحملیّة تدلّ علی الهوهویّة التصدیقیّة، وهیئة الجملة الحملیّة بالتأویل ـ علی ما سبق
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 117
منّا ـ تدلّ علی تحقّق الروابط وعلی الأکوان الرابطة، فللهیئات شأن عظیم فی الإفادة.
وأظنّ أنّ القول المقابل للمشهور هو وضع مجموع الجملة لإفادة المعانی التصدیقیّة بأقسامها وخصوصیّاتها، فجملة «زید قائم» موضوعة لإفادة الهوهویّة التصدیقیّة، کما أنّ مفرداتها وضعت للمعانی التصوّریّة، فالاختلاف بین المشهور وغیره فی أنّ الدالّ علی المعانی التصدیقیّة هل هی الهیئات أومجموع الجملة، کما یشهد به کلام ابن مالک الآتی؟ ولا أظنّ أن یکون مراد القائل بالوضع للمجموع هو ما نسب إلیه المتأخّرون من وضع جدید له من غیر إفادة شیء، ممّا هو واضح الفساد.
نعم هنا احتمال آخر: هو کون المجموع موضوعاً لإفادة ما تفید الهیئة علی سبیل الترادف، ولا یرد علی ما ذکرنا شیء ممّا ذکروا إلاّ ما نقل عن
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 118
ابن مالک فی شرح المفصّل؛ من أنّ المرکّبات لو کان لها وضع لما کان لنا أن نتکلّم بکلام لم نُسبق إلیه؛ إذ المرکّب الذی أحدثناه لم یَسبق إلیه أحد، فکیف وضعه الواضع؟! انتهی.
وهذا إشکال متین؛ لأنّ الالتزام بالوضع لمجموع الجملة ـ هیئة ومادّة ـ مستلزم للالتزام بوضع کلّ جملة جملة علی حدة بالوضع الشخصی؛ لعدم تصوّر الوضع النوعی إلاّ لهیئات الجمل، لا لمجموع المادّة والهیئة، فـ «زید قائم» و«عمرو قاعد» مشترکان فی الهیئة لا المادّة، فلا یمکن الوضع النوعیّ للمجموع، فلا محیص عن الالتزام بأنّ الجمل التی أحدثها المتکلّم ـ ممّا تکون موادّها مختلفة عن السابقة ـ غیر موضوعة، وهو واضح البطلان.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الحقّ ما علیه المشهور من أنّ الدالّ علی المعانی التصدیقیّة هی الهیئات، ولا وضع لمجموع الجملة.
ولا ینقضی تعجّبی من بعض المدقّقین من المحشّین علی الکفایة کیف ادّعی أنّ کلام ابن مالک ظاهر فی أنّ محلّ النزاع هذا الأمر البدیهیّ البطلان، قائلاً: إنّه لا یخفی علی مثل ابن مالک أنّ الوضع نوعیّ لا شخصیّ ولا أدری أ نّه ما فهم من کلامه! وما موضع دلالته علی أنّ النزاع فیه؟
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 119
تنبیه: فی الموضوع له فی الهیئات:
الحقّ أنّ هیئات الجمل الخبریّة وضعت للهوهویّة الواقعیّة إن کانت حملیّة، مثل «زید إنسان» أو«قائم»، وللأکوان الرابطة النفس الأمریّة إن کانت حملیّة مؤوّلة، مثل «زید فی الدار» أو «له القیام»، لا للنسب الذهنیّة من حیث کشفها عن الواقع کما اختاره صاحب الفصول؛ ضرورة أ نّه لا فرق بینها وبین الألفاظ الموضوعة للمعانی النفس الأمریّة، ودعوی وضع جمیع الألفاظ حتّی الأعلام الشخصیّة للصور الذهنیّة الحاکیة کما تری، فإنّ تبادر نفس المعانی من الألفاظ من غیر خطور الصور الذهنیّة الحاصلة للمتکلّم أقوی شاهد علی المدّعی.
هذا مضافاً إلی أنّ الغرض من الوضع هو إفهام نفس الحقائق، فلا معنی لجعل الألفاظ إلاّ لها، نعم فی إفهامها یحتاج إلی التصوّر، وهذا غیر کون
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 120
الموضوع له هو المتصوّر. ودعوی تبادر الصور الذهنیّة الحاکیة فی الجمل الخبریّة، ممنوعة جدّاً.
وعمدة ما دعاه إلی الالتزام بذلک هو الإشکال المتراءی وروده علی وضعها للنسبة النفس الأمریّة؛ من لزوم أن لا یکون لها معنیً فی الأخبار الکاذبة؛ لانتفاء النسبة الواقعیّة فیها.
وفیه: أنّ ذلک وارد ـ أیضاً ـ علی فرض وضعها بازاء النسبة الذهنیّة الکاشفة عن الواقع؛ ضرورة أنّ الکواذب لا تحقّق لنسبها حتّی تکشف الصور الذهنیّة عنها، ولو قیل من حیث صلاحیّتها للکشف، فلابدّ من الالتزام بوضعها للنسبة الذهنیّة من حیث هی، فإنّها صالحة له، وهو مقطوع الفساد، ولا یلتزم به القائل.
والتحقیق: أ نّها وضعت للواقعیّات، والإشکال مدفوع بأنّ الاستعمال لیس إلاّ طلب عمل اللفظ فی المعنی؛ بمعنی جعل اللفظ وسیلة لانتقال ذهن السامع إلی المعنی انتقالاً بالعرض لا بالذات، وفی هذا الانتقال بالعرض لایلزم أن یکون المعنی محقّقاً فی الخارج، کما أنّ الأمر کذلک فی الإخبار عن المعدوم المطلق بأ نّه لا یُخبر عنه، وعن شریک الباری بأ نّه ممتنع، فالمشرک المعتقد للشریک إذا أخبر عن معتقَده یُخبر عن الواقع لا الشریک الذهنیّ، ولهذا یکون مخطئاً، والمخبر بأنّ زیداً قائم یخبر عن الواقع ویرید أن یلقی فی
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 121
ذهن المخاطب قیامه واقعاً، وهو لا یحصل إلاّ بالاستعمال.
وبالجملة: أنّ استعمال اللفظ فی المعنی لا یتوقّف علی تحقّق المعنی، بل یتوقّف علی تصوّره بالعرض، وهو لا یتوقّف علی وجوده.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ هیئات القضایا موضوعة لنفس الهوهویّات أو الأکوان الرابطة النفس الأمریّة، وتکون آلة لإحضار معانیها فی ذهن السامع بالعرض، وقضیّة مطابقة الإخبار للواقع وعدمها أمر خارج عن حریم الوضع والدلالة، کما أنّ إرادة المتکلّم وانفهام المعنی وفهم السامع کلّها خارجة عنه.
هذا کلّه إذا قلنا بأنّ الموضوع له فی الهیئات خاصّ کما هو التحقیق، وأمّا مع اختیار عمومه فالأمر أوضح؛ لأ نّها دائماً مستعملة فی المعنی الکلّی، والتطبیق علی الجزئیّات إنّما هو بدالّ آخر.
تتمیم: فی تقسیم اللفظ إلی المفرد والمرکّب:
قالوا: إنّ اللفظ إمّا مفرد أو مرکّب، والثانی ما دلّ جزء لفظه علی جزء معناه، أو ما قصد بجزء لفظه الدلالة کذلک، والأوّل بخلافه.
أقول: إن کان اللفظ بمعنی الرمی، وإطلاقه علی ما خرج من الفم معتمداً علی أحد المخارج باعتبار رمیه منه، لم یکن تقسیم اللفظ إلی المفرد والمرکّب صحیحاً؛ لأنّ اللفظ مفرداً کان أو مرکّباً لم یکن شیئاً خارجاً من الفم، فإنّ
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 122
زیداً ـ مثلاً ـ مرکّب من حروف، وکلّ حرف لفظ وملفوظ، والترکیب منها اعتباریّ، فلم یکن المجموع لفظاً ولا موجوداً إلاّ فی الاعتبار، فما وضع للمعانی لیس لفظاً، نعم ما لا جزء له کهمزة الإستفهام وکاف التشبیه لفظ موضوع.
وإن کان اللفظ موضوعاً للکلمة أو منقولاً إلیها فتقسیمه إلیهما ـ أیضاً ـ لیس بصحیح؛ لأنّ المرکّب کـ«عبداللّٰه» لیس بلفظ، بل لفظان موضوعان لمعنیین، والمجموع لیس لفظاً، والأمر سهل.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 1صفحه 123