محصّل الکلام فی وجه تقدّم السببی علی المسبّبی
هذا ما ذکر فی المقام ، وقد عرفت أنّ العمدة فی وجه تقدّم السببی علی المسبّبی هو ما ذکره الشیخ قدس سره قبل ذکر الإشکال ، وهو قدس سره لم یعتن به ، وتوضیحه یتوقّف علی إعادة ما ذکرناه سابقاً فی وجه عدم حجّیة الاُصول المثبتة وعدم ترتّب أثر الأثر إلاّ إذا کان شرعیاً .
فنقول : مفاد قوله : «لا تنقض» إمّا إطالة عمر الیقین السابق تعبّداً وجعله أمارة تأسیسیة فی طول سائر الأمارات ، أو وجوب ترتیب آثار الیقین السابق المترتّبة علیه بما هو طریق ، أو وجوب ترتیب آثار المتیقّن ، ونتیجة الجمیع واحدة ، وإن کان الأوّل أولی ثمّ الثانی .
وکیف کان : فلا یتکفّل الدلیل إلاّ لترتیب الآثار الشرعیة بلا واسطة . ووجه ذلک یظهر بالدقّة فی حقیقة العلم وکیفیّة کشفه عن المعلوم ، فلو علمنا بحیاة زید مثلاً ، فهذا العلم بطریقیته للحیاة لا یترتّب علیه إلاّ انکشاف الحیاة ، ثمّ لو فرض الملازمة الواقعیة التکوینیة بین حیاة زید وبین نموّ لحیته یتولّد من هذا العلم علم آخر متعلّق بنموّ اللحیة ، ویترتّب علی هذا العلم الثانی انکشاف متعلّقه ، وکذلک لو فرض ملازمة واقعیة تکوینیة بین حیاة زید وحیاة عمرو مثلاً یتولّد علم ثالث متعلّق بحیاة عمرو ویترتّب علیه انکشاف حیاة عمرو .
وبالجملة : فانکشاف لوازم الشیء وملزوماته وملازماته لیس بنفس العلم بالشیء ، فإنّ العلم لا یکشف إلاّ عن متعلّقه . غایة الأمر : أنّه یتولّد من العلم بالشیء علوم متعدّدة بعدد لوازمه وملزوماته وملازماته وانکشاف کلّ منها
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 168 بالعلم المتعلّق بنفسه ، هذا إذا کانت الملازمة بین الأمرین تکوینیة .
ومنه یظهر الأمر فیما إذا کانت شرعیة ، کما فی الملازمات الثابتة بین الأحکام وموضوعاتها بحسب عالم التشریع ، فلو علمنا بحیاة زید مثلاً فلا یقتضی نفس هذا العلم إکرامه ، بل لو فرض ثبوت الملازمة الشرعیة بین حیاة زید وبین وجوب إکرامه یتولّد من العلم بالحیاة العلم بوجوب الإکرام ، ویترتّب علیه حکم العقل بالإطاعة . ولو فرض المجعول الشرعی حکماً کلّیاً بأن قال : «أکرم العلماء» فالعلم بعلم زید لا یترتّب علیه بنفسه إکرامه ، بل العلم به یجعله صغری للکبری المعلومة ، ویتولّد من العلم بالصغری والکبری العلم بالنتیجة وحکم العقل بالإطاعة یترتّب علی هذا العلم الثالث .
هذا کلّه فی العلم الوجدانی وقس علیه العلم التعبّدی ، فلو علمنا سابقاً بحیاة زید مثلاً ، ثمّ شککنا فیها فقال الشارع : «لا تنقض الیقین بالشکّ» فإمّا أن یکون مفاده إطالة عمر الیقین فقط ، وإمّا أن یکون مفاده وجوب ترتیب الأثر .
فعلی الأوّل یکون الشاکّ بلحاظ جعل الشارع ذا یقین تعبّدی بالحیاة لا غیر ، فلو فرض وجود کبری شرعیة حاکمة بأنّ «الحیّ یجوز تقلیده» مثلاً ینطبق هذه الکبری علی الصغری التعبّدیة ویعلم منهما بالنتیجة ، ولو فرض وجود کبری شرعیة حاکمة بأنّ «نامی اللحیة یجب إکرامه» فلا ینطبق هذه الکبری ، فإنّ الیقین التعبّدی قد تعلّق بنفس الحیاة لأنّها المتیقّنة سابقاً والمشکوکة لاحقاً ، والحکم بأنّ «کلّ حیّ نامی اللحیة» لیس من الأحکام الشرعیة حتّی یثبت بذلک نموّ اللحیة ، ثمّ یثبت وجوب الإکرام ، وبدون إثبات نموّ اللحیة لا یثبت حکمه الشرعی بصرف إثبات الحیاة لعدم کونه حکماً لها .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 169 نعم ، لو فرض وجود کبری شرعیة حاکمة بأنّ «جائز التقلید یجوز الاقتداء به» فباستصحاب الحیاة ینطبق علیها الکبری الشرعیة الحاکمة بأنّ «الحیّ یجوز تقلیده» ، ویستنتج منهما جواز التقلید ، ثمّ یجعل ذلک صغری للکبری الشرعیة الثانیة وهکذا ، فالآثار الشرعیة المترتّب بعضها علی بعض تترتّب جمیعها بهذا الطریق ولا یتکفّل قوله : «لا تنقض» من أوّل الأمر إثبات هذه الآثار ، بل هو یتکفّل لإحراز الحیاة فقط ، فإنّها المتیقّنة سابقاً والمشکوکة لاحقاً .
غایة الأمر : أنّ استصحاب الحیاة حاکم علی الدلیل الاجتهادی المتضمّن لجواز تقلید الحیّ لکونه موسّعاً لموضوعه ، والنتیجة الحاصلة من ضمّ هذه الصغری التعبّدیة إلی الکبری الاجتهادیة حاکمة علی الدلیل الاجتهادی الثانی المتضمّن لجواز الاقتداء به وهکذا .
ولنضرب لک مثالاً آخر : لو شککنا فی عدالة زید وعمرو ، فباستصحاب عدالتهما ینطبق الکبری الحاکمة بأنّ «الطلاق یصحّ عند العادل» وهذا الاستصحاب حاکم علی هذه الکبری ، وبعد الطلاق یترتّب دخول المرأة فی العدّة وکونها فی العدّة ، ویترتّب علیه جواز تزویجها بعد الخروج من العدّة ، ویترتّب علی تزویجها وجوب نفقتها ، فالاستصحاب لیس متکفّلاً لإثبات جمیع هذه الأحکام وإنّما یتکفّل لإثبات مبدأ السلسلة وبثبوته یترتّب الکبریات الشرعیة المترتّبة بعضها علی بعض وکلّ سابق حاکم بالنسبة إلی اللاحق .
هذا کلّه إذا کان مفاد قوله : «لا تنقض» إطالة عمر الیقین ، کما هو الحقِّ. غایة الأمر : أنّه لو لا الأثر الشرعی کان هذا الجعل لغواً ، وأمّا إذا کان مفاده وجوب ترتیب آثار الیقین الطریقی کما هو الوجه الثانی أو المتیقّن کما هو مقتضی الوجه
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 170 الثالث . فنقول : إنّ الیقین بکلّ شیء یقتضی ترتیب أثر نفسه لا أثر غیره فأثر الیقین الطریقی المتعلّق بحیاة زید لیس إلاّ ترتیب الآثار الشرعیة الثابتة لنفس الحیاة ، وأمّا آثار نموّ اللحیة فلیست من آثار الیقین بالحیاة ، بل هی من آثار الیقین بنموّ اللحیة .
غایة الأمر : تولّد هذا الیقین من ذاک وکونه معلولاً له ، فإذا قال الشارع : «رتّب أثر الیقین بالحیاة» فمقتضی ذلک ترتیب الآثار الشرعیة الثابتة لنفس الحیاة ، وأمّا نموّ اللحیة فإن ثبت بالنسبة إلیه أیضاً حکم آخر بوجوب ترتیب الآثار فهو وإلاّ فلا یثبت آثاره بسبب قوله : «رتّب أثر الحیاة» . وقولهم : «أثر الأثر أثر» من الأغلاط لما عرفت من أنّ الیقین بالملزوم لا یستلزم إلاّ ترتیب آثار نفس الملزوم ، وأمّا ترتیب آثار اللازم ، فهو من مقتضیات الیقین باللازم .
وعمدة ما أوقعهم فی الاشتباه ما رأوه من علّیة العلم بکلّ من اللازم والملزوم للعلم بالآخر فتخیّلوا أنّ من آثار الیقین بالملزوم مثلاً ترتیب آثار اللازم ، مع أنّ ذلک لیس من آثاره ، بل من آثار الیقین باللازم المتولّد عن الیقین بالملزوم ، وهذا من غیر فرق بین أن یکون اللازم لازماً تکوینیاً أو شرعیاً ، فأثر الیقین بعدالة زید وعمرو فی المثال السابق لیس جواز تزویج المرأة ، بل الأثر له عبارة عن صحّة الطلاق عندهما للقاعدة الکلّیة الحاکمة بصحّة الطلاق عند العادل ، ثمّ العلم بصحّة الطلاق الواقع بسبب تطبیق الکبری الشرعیة علی الصغری التعبّدیة الثابتة بالاستصحاب یستـتبع العلم التعبّدی بجواز تزویجها إذا خرجت من
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 171 العدّة ، للقاعدة الکلّیة الحاکمة بجواز تزویج المرأة المطلّقة إذا خرجت من العدّة ، ثمّ العلم بذلک یستـتبع وجوب الإنفاق علیها وهکذا ، فکلّ سابق یصیر حاکماً بالنسبة إلی اللاحق ویصیر سبباً لتوسعة موضوعه .
وبالجملة : فالآثار الشرعیة المترتّب بعضها علی بعض وإن کانت تترتّب بأجمعها بإثبات مبدأ السلسلة بالاستصحاب ، ولکن لیس إثبات الجمیع بنفس الاستصحاب ، بل ببرکته یثبت المبدأ وغیره یثبت بتطبیق الکبریات المجعولة الشرعیة فیتوقّف ترتیب الآثار علی کونها اُموراً مجعولة بالجعل الشرعی وکبریات تشریعیة ثابتة مع قطع النظر عن الاستصحاب .
کیف! ولو اُرید إثبات الجمیع ببرکة نفس الاستصحاب لزم إثبات الاستصحاب للموضوع والحکم معاً ، إذ المفروض أنّ کلّ أثر موضوع بالنسبة إلی لاحقه ، فإثبات اللاحق لا یعقل إلاّ بإثبات موضوعه فی الرتبة السابقة ، وهذا الإشکال وإن کان جاریاً فی باب حجّیة الخبر بالنسبة إلی الخبر مع الواسطة ، ولکنّه یجاب عنه فی ذلک الباب بانحلال قوله : «صدّق العادل» بأحکام متعدّدة بعدد الأخبار ، فکلّ حکم یتکفّل لإثبات موضوع حکم آخر ، وأمّا فیما نحن فیه فلا یمکن الجواب عنه ، إذ المفروض أنّ الآثار المترتّبة لیس کلّ منها مورداً لاستصحاب مستقلّ لعدم ثبوت الیقین السابق والشکّ اللاحق إلاّ فی بعض منها .
فتلخّص ممّا ذکرنا : أنّ الملاک فی ترتّب الآثار بعد الاستصحاب کونها مفاد کبریات شرعیة یثبت بالاستصحاب صغری اُولاها وتنطبق هی واحدة بعد واحدة قهراً ، ولذلک تری ترتّب الآثار الشرعیة دون العقلیة لعدم کونها مفاد کبریات شرعیة حتّی تنطبق بإثبات صغریاتها بالاستصحاب ودون الشرعیة المترتّبة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 172 علی وسائط عقلیة، لعدم ترتّب موضوعاتها وعدم إثباتها لا حقیقة ولا تعبّداً.
إذا عرفت ما ذکرناه وتأمّلته حقّ التأمّل اتّضح لک وجه تقدّم الأصل السببی علی المسبّبی وأنّه لیس بسبب حکومة الأوّل علی الثانی ، بل بسبب حکومته علی الدلیل الاجتهادی المتضمّن للکبری الکلّیة الرافعة للشکّ عن الثانی ، مثلاً إذا غسل الثوب النجس بماء مستصحب الطهارة فلیس مفاد «لا تنقض» بالنسبة إلی الماء إلاّ طهارته تعبّداً ، فاستصحابه یصیر حاکماً بالنسبة إلی الدلیل الاجتهادی الحاکم بأنّ «کلّ ما غسل بماء طاهر فهو طاهر» لکونه موسّعاً لموضوعه ، وبعد انطباق هذه الکبری یرتفع الشکّ عن الثوب المغسول به ، فما اشتهر بینهم من : «حکومة الأصل السببی علی المسبّبی» من الأغلاط ، فإنّ الأصل السببی حاکم علی الدلیل الاجتهادی المتضمّن للکبری الکلّیة ، وهذه الکبری حاکمة علی الأصل المسبّبی حکومة نتیجتها الورود .
وکیف کان : فلیس رفع الید عن الأصل المسبّبی بسبب الأصل ، بل بالدلیل الاجتهادی ، ولذلک یقدّم السببی وإن کان عبارة عن قاعدة الطهارة ففی المثال فبجریان القاعدة فی الماء ینطبق علیه الکبری الکلّیة ولا یجری استصحاب النجاسة فی الثوب .
وبعبارة اُخری : نفس الحکم بطهارة الماء بالاستصحاب أو بالقاعدة لا ینافی ولا یعارض نجاسة الثوب المغسول به ، وإنّما یعارضها حکم الشارع بأنّ «عقیب ذلک المغسول بالماء الطاهر طاهر» ، وهذا الحکم مفاد دلیل اجتهادی .
وقد عرفت : ورود الأدلّة الاجتهادیة بالنسبة إلی الاُصول ، فاستصحاب نجاسة الثوب یصیر موروداً للدلیل الاجتهادی الذی ینافیه ، بحیث لولاه لما کان
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 173 ینافیه الأصل السببی أصلاً ، فتدبّر فیما ذکرناه أخیراً ، فإنّه دقیق وبالتأمّل حقیق .
ثمّ إنّه یظهر لک بالتدبّر فیما ذکرناه ـ من کون سبب تقدّم الأصل السببی علی المسبّبی انطباق کبری کلّیة علی مفاد السببی ـ : أنّه ما لم یکن فی البین کبری شرعیة مجعولة لا وجه لتقدّم الأصل السببی علی المسبّبی وإن کان الشکّ فی الثانی معلولاً للشکّ فی الأوّل ، إذ صرف ترتّب الشکّین لا یکفی للتقدیم ما لم یکن ترتّب شرعی بین المشکوکین ، والترتّب الشرعی لا یکون إلاّ فیما إذا کان مفاد الأصل السببی ینطبق علیه کبری شرعیة ثابتة بدلیل اجتهادی وهی الموجبة لرفع الشکّ عن المسبّبی .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 174