الأقوال الراجعة إلی وجوب المقدّمة حال الإیصال :
لکن لو فرض ورود الإشکالات المذکورة، وعدم إمکان أخذ قید الإیصال فی المقدّمة الواجبة، ولم یمکن القول بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً، فهل یمکن تصویر الواجب من المقدّمة بما یکون برزخاً بین القولین؛ بأن لم یکن الواجب من المقدّمة مقیّداً بالإیصال مع عدم وجوب مطلق المقدّمة؛ بحیث یشترک مع قول صاحب الفصول فی النتیجة أو لا؟
فنقول : قال الاُستاذ الحائری قدس سره : إنّ الواجب من المقدّمة لیس ذا وذاک، بل الطلب تعلّق بالمقدّمات فی حال لحاظ الإیصال، لا مقیّداً بالإیصال حتّیٰ یرد علیه الإشکالات السابقة.
والمراد : أنّه بعد تصوّر المقدّمات ولحاظها جمیعها مرتّبةً ـ رج کرده ـ یریدها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77 بذواتها؛ لأنّ تلک الذوات بهذه الملاحظة لا تنفکّ عن المطلوب الأصلی، ولو لاحظ مقدّمة منفکّةً عمّا عداها من المقدّمات فلا یریدها جُزافاً، فإنّ ذاتها وإن کانت مورداً للإرادة، لکن لمّا کانت فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لم تکن کلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق، وهذا مساوق للإیصال.
وقال المحقّق العراقی قدس سره : یمکن تصویر المسألة بصور :
إحداها : أنّ الواجب هو المقدّمة بشرط وجود سائر المقدّمات، ولازم ذلک هو الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة.
وثانیتها : أنّ الواجب هو المقدّمة المقیّدة بالإیصال، ولازم ذلک وجود سائر المقدّمات.
وثالثتها : أن الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأمة للإیصال. وحینئذٍ فهو ینتج نتیجة مقالة صاحب الفصول، مع عدم ورود الإشکالات المذکورة علیه، ولیس قولاً بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً.
وقال بعض الأعاظم : إنّ الوجوب الغیری لم یتعلّق بکلّ واحدة من المقدّمات، بل بالعلّة التامّة، وهی مجموع المقدّمات، فیتعلّق بکلّ واحدة منها أمر ضمنی لاغیری مستقلّ.
ومرجع هذه الوجوه شیء واحد تقریباً، وهو أنّ الواجب لیس مطلق المقدّمة، ولا المقدّمة المقیّدة بالإیصال، بل الواجب هی المقدّمة حال الإیصال وبلحاظ الإیصال، لکن الوجوه المذکورة مخدوشة.
توضیح ذلک : أنّ الظرف إمّا دخیل فی موضوع حکم، کما إذا قیل: «الماء فی الآنیة الکذائیّة مطلوب»، فلیس مطلق الماء فیه مطلوباً، أو لا دخل له فیه، کما إذا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78 قیل: «إنّ الذین فی المدرسة عدول»، فإنّ الظرف لا دخل له فی موضوع هذا الحکم، بل هو عنوان مشیر ومعرّف له.
وحینئذٍ نقول: إنّ قید حال الإیصال ولحاظه فی قولهم: «المقدّمة واجبة حال الإیصال» لا یخلو عن أحد الفرضین اللّذین ذکرناهما: فإن کان بالنحو الأوّل فهو عین ما ذکره صاحب الفصول، وإنّما الفرق بینهما فی التعبیر، وإن کان بالنحو الثانی فهو لیس إلاّ القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لعدم التقیید فیها حینئذٍ.
ویرد علیٰ خصوص مقالة المحقّق العراقی قدس سره مضافاً إلیٰ ما ذکر ـ: أنّ المُراد بالحصّة المذکورة فی عبارته هی الطبیعة المقیّدة بالإیصال، فهو عین مقالة صاحب الفصول قدس سره.
فإذا لم یرد علیٰ مقالة صاحب الفصول إشکال عقلی، فالأمر دائر بین قوله وبین القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لما عرفت من أنّ الأقوال الاُخر کلّها ـ وکذا ما أفاده المحقّق العراقی ـ لیست بشیء.
واستدلّ فی «الفصول» : تارةً بأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل الحاکم بالملازمة، فهو لا یحکم بوجوب غیر الموصلة.
والظاهر أنّ مراده أنّ القدر المُتیقّن هو ذاک؛ لیمتاز عن الدلیل الثالث الآتی.
واُخریٰ: بأنّ الوجدان شاهد علیٰ أنّه یصحّ أن یصرّح المولیٰ: بأنّی لا اُرید جمیع المقدّمات أو المقدّمات الغیر الموصلة، مع أنّه یقبِّح علیه التصریح بالنهی عن المقدّمات الموصلة أو جمیع المقدّمات، وهذا دلیل علیٰ أنّ الواجب هو المقدّمات الموصلة.
وثالثة : بأنّه لمّا کان وجوب المقدّمة لأجل التوصّل بها إلیٰ الإتیان بذی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79 المقدّمة، فلابدّ أن یکون الواجب هی هذه الحیثیّة؛ أی المقدّمة من حیث الإیصال.
هذه خلاصة استدلالاته، والعمدة منها هو الأخیر، فإنّ الأوّلین منها مجرّد دعویٰ یمکن عدم قبولها کما فی «الکفایة».
وأمّا الثالث : فأجاب عنه فی «الکفایة» :
أوّلاً : بمنع الصغریٰ؛ أی أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو للتوصّل، بل وجوبها إنّما هو لعدم تمکُّن المُکلّف وقدرته علیٰ امتثال أمر ذی المقدّمة بدونها؛ لأنّ التوصُّل إلیٰ ذی المقدّمة لیس من آثار وجوب المقدّمة وغایتها، بل من الفوائد التی تترتّب علیها أحیاناً بالاختیار، وبمقدّمات اُخریٰ هی مبادی اختیاره، ولا یکاد یکون مثل هذا غایة لمطلوبیّتها، وداعیاً إلیٰ إیجادها، وإلاّ یرد علیه إشکال الدور، ولزم أن یکون ذو المقدّمة واجباً نفسیّاً وغیریّاً.
واُخریٰ : أنّه مع فرض تسلیم الصغریٰ، لکن الکبریٰ ممنوعة، ونمنع اعتبار التوصُّل فیها وإن سُلِّم أنّ الوجوب لأجل التوصُّل. انتهیٰ.
لکن فیه أوّلاً : أنّه إن أراد أنّ غایة وجوب المقدّمة هو هذا الأمر العدمی ـ أی عدم إمکان إیجاد ذی المقدّمة بدونه ـ فهو کما تریٰ، ولا أظنّ أن یلتزم به، فلابدّ أن یرید أنّ الغایة له هو توقّف ذی المقدّمة علیه لا التوصّل إلیٰ ذی المقدّمة.
وثانیاً : أنّه علیٰ فرض تسلیمه الصغریٰ ـ أی أنّ وجوب المقدّمة للتوصّل إلیٰ ذیها ـ لا یُعقل وجوب المقدّمة بدون هذه الحیثیّة؛ ضرورة أنّه إذا تعلّق الحبّ والشوق أوّلاً وبالذات بحیثیّة کامنة فی الشیء، کحیثیّة التوصّل إلیٰ ذی المقدّمة فی المقدّمة، فلا محالة یتعلّق إرادته ـ أیضاً ـ بتلک الحیثیّة، ولا یُعقل تعلُّقها بحیثیّة اُخریٰ، کما هو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 80 واضح، ولا فرق فی ذلک بین الواجب النفسی والغیری.
نعم : لو جهل المُکلَّف بغایة الشیء المأمور به، کنَیل الدرجات العالیة فی مثل وجوب الصلاة، یمکن أن یفعلها لا لأجل ذلک.
وقال بعض المحقّقین : یمکن توجیه مقالة صاحب الفصول بوجهین :
أحدهما : أن یرید بما ذکره واختاره : أنّ الإرادة متعلّقة بکلّ واحد من السبب الفعلی والشرط الفعلی أو المعدّ الفعلی، ولا ریب أنّ کلّ واحد منها مع قید الفعلیّة یلازم الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة.
الثانی : أنّ الإرادة متعلّقة بالعلّة التامّة لذی المقدّمة، وهی عبارة عن مجموع المقتضی والشروط والمعدّ، ولا ریب فی أنّها مستلزمة للوصول إلیٰ المعلول.
ثمّ استشکل : بأنّ الإرادة من أجزاء العلّة التامّة، ولا یمکن تعلّق الإرادة بها؛ لأنّها لیست بالاختیار.
وأجاب : بأنّا لا نُسلِّم عدم إمکان تعلّق الإرادة والشوق بها، بل الممتنع هو البعث إلیها انتهیٰ.
أقول : یرد علیٰ ما ذکره أوّلاً : ما أوردناه علیٰ ما فی «الکفایة»: من أنّه لو فرض أنّ حیثیّة التوصُّلیّة علّة لوجوب المقدّمة فالواجب هو هذه الحیثیّة لا غیرها، فإنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة إلیٰ الحیثیّات التقییدیّة.
هذا إذا أراد أنّ حیثیّة المُوصِلیّة علّة لتعلُّق الإرادة بالمقدّمة.
وإن أراد أنّ حیثیّة السببیّة التامّة والشرطیّة الفعلیّة والمعدّ الفعلی علّة لتعلّق الإرادة بالمقدّمة، فهو خلاف الوجدان.
ویرد علیٰ ما ذکره ثانیاً ـ مضافاً إلیٰ هذا الإشکال الوارد علیٰ الأوّل ـ: أنّ مجموع المقتضی والشرط والمعدّ لیس شیئاً واحداً؛ لیتعلّق به الإرادة سویٰ الإرادة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 81 المتعلّقة بکلّ واحد من المقتضی والشرط والمُعِدّ، فهل تریٰ من نفسک تعلُّق إرادتک بمجموع المقدّمات من حیث المجموع، سویٰ الإرادة المتعلّقة بالأجزاء؛ أی أجزاء العلّة کلّ واحد منها؟!
ولا یتوهّم إرادة ذلک المحقّق أنّ مراد صاحب الفصول ذلک؛ کیف وهو أورد علیٰ مذهبه الإیرادات المتقدّمة؟! فکیف یمکن أن یرید ذلک مع إشکاله علیه؟!
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 82