المقام الأوّل : التخصیص بالمفهوم الموافق
وفی المراد من مفهوم الموافق احتمالات :
أحدها : ما أفاده بعض الأعاظم : من أنّه عبارة عن إلغاء الخصوصیّة، کما لو سُئل عن رجلٍ شکّ بین الثلاث والأربع، فقال : «فلیبنِ علی الأربع» مثلاً، فیفهم من السؤال والجواب أنّه لا دَخْل للرجولیّة فی ذلک، لا فی نظر السائل، ولا فی نظر
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 395 الإمام علیه السلام فالمرأة ـ أیضاً ـ کذلک، وحینئذٍ فلیس المراد منه الأولویّة.
الثانی : أنّه عبارة عمّا کُنّی عنه بکلام آخر، کما لو قیل: إنّک لا تقدر أن تنظر إلیٰ ظلّ فلان؛ کنایة عن عدم قدرته علیٰ إیذائه، فإنّ مقصود المتکلِّم هو المکنّیٰ عنه؛ بدون أن یقصد نفس النظر إلیٰ ظلّه، ولا یبعد أن یکون قوله تعالیٰ: «فَلاَ تَقُلْ لَهُما اُفٍّ» من هذا القبیل، وعلیه فنفس الاُفّ لیست منهیّاً عنها، بل هو کنایة عن النهی عن ضربهما وإیذائهما.
الثالث : أن یتعلّق الحکم بفردٍ، لکن سیق الکلام لبیان حکم کلّیّ، وتعلیق الحکم بهذا الفرد لأجل أنّه أحد مصادیق ذلک الکلی؛ لأنّه الفرد الخفیّ.
والفرق بینه وبین الاحتمال الثانی : هو أنّ الفرد المذکور محکوم بالحکم المذکور ومنظور إلیه فیه، بخلافه فی الاحتمال الثانی.
الرابع : أن یکون الکلام مسوقاً لبیان حکم فرد، ونظر المتکلِّم ـ أیضاً ـ إلیٰ هذا الفرد بخصوصه، لکن یکشف بالمناط القطعی الموجود فیه أنّ حکم الفرد الآخر ـ أیضاً ـ کذلک بالأولویّة القطعیّة، کما لو قال : «أکرم خدّام العلماء»، فإنّه یعلم منه وجوب إکرام العلماء أنفسهم بالأولویّة القطعیّة وبالطریق الأولیٰ.
والفرق بینه وبین الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة: هو أنّ الکلام فیها مسوق لبیان حکمٍ کلّیٍّ، بخلافه فیه، فإنّه مسوق لبیان حکمِ افرادٍ خاصّة، لکن یکشف به عن الحکم الکُلّی لغیرهم أیضاً.
الخامس : أنّه عبارة عن الأحکام المنصوصة العلّة، کما لو قال : «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مُسْکر»، فإنّه یُفهم منه: أنّ النبیذ ـ أیضاً ـ کذلک؛ لأنّه ـ أیضاً ـ مُسْکر،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 396 ذکره بعض الأعاظم.
السادس : أنّه عبارة عن الجامع بین الاحتمالات المذکورة؛ أی ما لم یکن واقعاً فی محلّ النطق، مع عدم المخالفة بینه وبین المنطوق فی الإیجاب والسلب.
ثمّ إنّ محطّ البحث ومورد الإجماع : هل هو فیما إذا کان المفهوم بحیث لو اُبدل بالمنطوق خُصّص به العامّ؛ بأن یکون أخصّ مطلقاً من العامّ، أو أنّه أعمّ منه وممّا إذا اُبدل بالمنطوق لم یُخصّص به العامّ، کما فی الأعمّ والأخصّ من وجه؟
الظاهر هو الأوّل، فنقول : بناءً علیٰ الاحتمال الأوّل ـ وهو أنّ المفهوم الموافق عبارة عن إلغاء الخصوصیّة فی الکلام ـ فلا ریب فی أنّه لا فرق بینه وبین المنطوق فی أنّه یُخصَّص العامّ به، فإنّ کلّ واحد منهما مُستفاد من اللفظ عرفاً، واللفظ یدلّ علیهما.
وکذلک بناءً علیٰ الثانی والثالث، وفی الحقیقة لیس ذلک من قبیل المفهوم، بل هو مدلول اللفظ، فیُخصَّص به العامّ بلا إشکال.
وأمّا الاحتمال الخامس : فإن کان الحکم المنصوص العلّة بحیث یُفهم منه إلغاء الخصوصیّة عرفاً من الحکم المُلقیٰ إلیٰ المخاطَب، ویتبادر منه فی المتفاهم العرفی أنّ الحکم یدور مدار العلّة وجوداً وعدماً، کالإسکار فی المثال، فهو کالمنطوق فی جواز تخصیص العامّ به، فإذا ورد : «کلّ مائع حلال» ـ مثلاً ـ فهو یُخصّص بمفهوم قوله: «الخمر حرام؛ لأنّه مُسکر»، فیخرج منه النبیذ المسکر ـ أیضاً ـ ولو کان بینهما العموم من وجه یُعامل معهما معاملة المتعارضین.
وأمّا الاحتمال الرابع : وهو أن یکون الکلام مسوقاً لبیان حکم فرد خاصّ، لکن المخاطَب یکشف منه الحکم الکلی؛ لمکان المناط القطعی له عنده، فادّعیٰ بعض الأعاظم ـ الظاهر أنّه المحقّق المیرزا النائینی ـ أنّه لابدّ أوّلاً من ملاحظة المنطوق مع العامّ: فإن کان بینهما العموم من وجه فالمفهوم ـ أیضاً ـ کذلک، ولا یُعقل أن یکون
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 397 المفهوم أخصّ مطلقاً من العامّ حینئذٍ لیُخصَّص به، وإن کان المنطوق أخصّ مطلقاً منه فحینئذٍ یخصّص العامّ به، ولا یُعقل أن یکون المفهوم أخصّ من وجه ومعارضاً له، مع عدم العموم من وجه بین العامّ والمنطوق وعدم التعارض بینهما.
وفیه : أوّلاً : أنّ ما ذکره إنّما یصحّ فی هذا الاحتمال من معنی المفهوم الموافق، لا فی الاحتمالات الاُخر مع أنّ مدّعاه عامّ یشمل جمیعها، فالدلیل أخصّ من المُدّعیٰ.
وثانیاً : قد یعارض المفهومُ الموافقُ العامّ مع عدم معارضة المنطوق له، کما إذا قال: «لاتکرم النحویّین»، ثمّ قال: «أکرم جُهّال خُدّام الصرفیّین»، فإنّه لا تعارض بین العامّ والمنطوق فیهما؛ لعدم تصادقهما فی شیء، مع أنّ بینه وبین وجوب إکرام علماء خدّام الصرفیّین المستفاد بنحو مفهوم الموافقة تعارضاً، وبینهما العموم من وجه، کما لا یخفیٰ.
لکن یمکن أن یقال ـ کما أفاده بعضهم فی مثل المثال المذکور فی بیان وجوب تقدیم المفهوم علیٰ العامّ مع أنّ بینهما عموماً من وجه ـ : إنّ الأمر فیه دائر بین رفع الید عن المنطوق ، وبین رفع الید عن المفهوم، وبین رفع الید عن العموم:
لا سبیل إلی الأوّل؛ لأنّه بلا وجه لعدم التعارض بینه وبین العامّ.
وکذلک الثانی؛ لأنّه منافٍ لثبوت الملازمة بین المفهوم والمنطوق.
فلا محیص عن رفع الید عن العموم.
لکن یمکن أن یورد علیه : أنّه وإن لم یکن بین العامّ والمنطوق تعارض أوّلاً وبالذات، لکن بینهما تعارض بالعرض؛ حیث إنّ المنطوق ملازم لما هو معارض للعامّ.
والحاصل : أنّ العامّ معارِض للمنطوق والمفهوم معاً، لکن بالنسبة إلیٰ المفهوم بالذات وبالنسبة إلیٰ المنطوق بالعرض، فرفع الید عن المنطوق لیس بلا وجه. هذا کلّه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 398 فی المفهوم الموافق.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 399