الأمر الأوّل : فی أقسام الواجبات والمستحبّات
منها : ما یترتّب علیه غرض البعث بمجرّد حصوله ـ بأیّ نحو حصل ـ ویسقط الأمر کیف ما اتّفق ، ولو لم یقصد العنوان ، فضلاً عن قصد التعبّد والتقرّب .
وذلک کغَسل الثوب النجس ؛ فإنّ الأمر به لأجل تحقّق الغَسل والطهارة ، وإن لم یقصد الأمر والعنوان .
ومنها : ما یعتبر فی تحقّقه قصد العنوان فقط ، من دون احتیاج له فی تحقّقه إلیٰ قصد التقرّب والتعبّد .
وذلک مثل ردّ السلام ؛ فإنّ سقوط التکلیف بردّ السلام إذا قصد بقوله «سلام علیکم» ـ مثلاً ـ ردّ السلام ، وإلاّ فإذا لم یقصد شیئاً أو قصد السلام ابتداءً لا یسقط التکلیف ، بل یکون آثماً لو اکتفیٰ به إذا أخّر ردّه . بل إذا قصد السلام ابتداءً یجب علیٰ کلّ منهما ردّ السلام .
ومن هذا القسم النکاح إذا وجب أو استحبّ ؛ لأنّ الموجب والقابل إذا لم یقصدا بقولهما : أنکحت . . . إیجاد عنوان النکاح والزوجیة لا یکاد یتحقّق النکاح والزوجیة بمجرّد التلفّظ بذلک ، ولا یکونا ممتثلین .
ومنها : ما یعتبر فیه ـ مضافاً إلیٰ قصد العنوان ـ قصد التقرّب ، من دون أن یعدّ العمل عبادة . کأداء الخمس والزکاة ونحوهما ؛ فإنّه لا یحصل الامتثال بأداء الخمس
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 160 ـ مثلاًـ کیف اتّفق ، بل لابدّ فیه من قصد التقرّب . ولکن ـ مع ذلک ـ لا یعدّ ذلک منه عبادة ، وبإتیانه لم یعبد الربّ تعالیٰ ، وإنّما تقرّب إلیه .
ومنها : ما یعتبر فیه ـ مضافاً إلیٰ قصد العنوان ـ قصد التقرّب ، وینطبق علیه کونه عبادة لله تعالیٰ . کالصلاة ، وهی أظهر مصادیقها ، کما تشعر بذلک الأذکار والأوراد الواردة فیها ؛ فإنّها وظیفة شرعت لتعبّد الربّ والثناء له بالربوبیة ، وسائر الصفات الجمالیة ، وتنزیهها عن النقص والصفات الجلالیة ، وتخشّع العبد بالنسبة إلیٰ ربّه تعالی . ویقال لهذا القسم : العبادة ، ویعبّر عنه بالفارسیة بـ «پرستش» .
ولا یخفیٰ : وجود الفرق بین القسمین الأخیرین ؛ وذلک لأنّ الابن إذا امتثل أمر والده وأطاعه لا یقال : إنّه عَبَده ، بل یقال : إنّه أطاعه وتقرّب إلیه .
فإذن : لم یکن کلّ فعل قربی وإطاعة عبادة ؛ فإنّ العبادة المرادفة لکلمة «پرستش» مختصّ بالربّ تعالیٰ ، ولا یجوز عبادة غیره ، ومن عبد غیره تعالیٰ یکون مشرکاً .
فهی أخصّ من مطلق التقرّب والإطاعة ؛ ولذا لا یکون صرف الإطاعة والتقرّب إلیٰ غیره تعالیٰ شرکاً ومحرّماً ، بل یکون جائزاً ، وربّما یکون واجباً .
فظهر : أنّ التعبّدیات وما یکون قصد التقرّب معتبراً فیها علیٰ قسمین : فقسم منها ما یعدّ العمل من الشخص عبادة ؛ وهو التعبّدی بالمعنی الأخصّ ، وقسم لا یطلق علیه ذلک ، بل یعدّ ذلک منه تقرّباً وإطاعة .
فعلی هذا : الأولیٰ ـ دفعاً للاشتباه ـ تبدیل عنوان التعبّدی بعنوان التقرّب .
فعند ذلک : ینقلب التقسیم الثنائی إلی التقسیم الثلاثی ؛ فیقال : الواجب إمّا توصّلی ؛ وهو الذی لا یعتبر فیه حتّی قصد العنوان ، أو قربی ؛ وهو الذی یعتبر فیه قصد الإطاعة والتقرّب .
والتقرّبی ـ القربی ـ إمّا تعبّدی ؛ وهو الذی یؤتیٰ به لأجل عبادته تعالیٰ والثناء
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 161 علیه بالعبودیة ، أو غیر تعبّدی ؛ وهو الذی یؤتیٰ به إطاعةً له تعالیٰ ، لا بعنوان الثناء علیه بالعبودیة ، فتدبّر واغتنم .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ المقابل للتوصّلی إنّما هو التقرّبی القربی أو التعبّدی بالمعنی الأعمّ ، لا التعبّدی بالمعنی الأخصّ ، المعبّر عنه بالفارسی بـ «پرستش» ، کما ربّما یظهر من بعضهم .
فإذن : حان التنبّه علیٰ ما فی مقالة المحقّق النائینی قدس سره فإنّه قال : التعبّدیة عبارة عـن وظیفة شرّعت لأجل أن یتعبّد بها العبد لربّه ، ویظهـر عبودیته ، وهـی المعبّر عنها بالفارسیـة بـ «پرستش» . ویقابلها التوصّلیة ، وهـی التی لم تکن تشریعها لأجل إظهار العبودیة .
توضیح النظر : أنّه لم یکن جمیع التعبّدیات شأنها ذلک ؛ أی لا یکون بحیث تطلق علیها العبادة المعبّرة عنها فی لغة الفرس بـ «پرستش» ؛ لأنّ بعضاً منها لایکون عبادة ، بل یعدّ إطاعة له تعالیٰ ، وتقرّباً إلیه .
فإذن : إطلاق التعبّدی قبال التوصّلی إنّما هو بمعناه الأعمّ الشامل لما لا یکون عبادة ، بل طاعة وتقرّباً إلیه تعالیٰ . وإطلاق التعبّدی علیٰ هذا القسم بعنوان المجازیة . فالحقیق أن یطلق علیٰ هذا القسم القربی ، کما أشرنا إلیه ، فتدبّر .
ذکر وتعقیب
قال المحقّق العراقی قدس سره : التحقیق أن یقال : إنّ العبادة علیٰ نحوین :
الأوّل : ما تبانی العقلاء علیٰ فعله فی مقام تعظیم بعضهم بعضاً ، کالسجود والرکوع وغیرهما ، وربّما أمضی الشارع بعضها فاعتبره عبادة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 162 ومثل هذه العبادة یفتقر کونها عبادة بالفعل إلیٰ قصد العنوان الذی صار الفعل عبادة فی بناء العرف ، وإلی إضافته إلیٰ شخص بخصوصه .
ولذا لا یکون وضع الجبهة علی الأرض لا بقصد السجود سجوداً ، کما أنّه لو قصد هذا العنوان ولکن لم یقصد به تعظیم شخص بخصوصه لا یکون عبادة بالفعل .
ویعتبر فی کون هذه العبادة مقرّباً من المتعبَّد له ـ مضافاً إلی الأمرین ـ عدم کونها منهیاً عنها ؛ إذ یجوز أن یکون مثل هذه مبغوضة للمتعبّد له ـ لما فیها من المفسدة ـ مع کونها عبادة بالفعل .
ومن آثار هذا القسم من العبادة : تحقّق الاستنابة فیها ؛ ضرورة أنّ العقلاء یعدّون مَن استناب غیره عنه فی تقبیل ید من یرید أن یعظّمه أنّه قد عظّمه بهذا التقبیل المنوی به النیابة عنه .
بل یتحقّق تعظیمه إیّاه ولو لم یستنبه بالتقبیل المذکور إذا فعله المقبِّل ناویاً به النیابة عن الغیر ، وکان المنوب عنه راضیاً بهذه النیابة المتبرّع بها .
الثانی : ما یتقوّم عبادیته بإطاعة لطلب من طلبه من فاعله ؛ لأنّ إطاعة العالی عبادة بذاتها . وکلّ فعل یصدر من فاعله ؛ معنوناً بعنوان إطاعة شخصٍ ما یکون عبادة بالعرض .
ولا تتحقّق الإطاعة إلاّ بعد تعلّق طلب المطاع بفعل المطیع ، وقصد المطیع بفعله امتثال طلب المطاع ، أو بإتیان الفعل به بداعی حبّ المولیٰ ، أو بداعی کون الفعل ذا مصلحة للمولیٰ .
وبالجملة : لا تتحقّق العبادة إلاّ إذا صدر الفعل من فاعله بأحد الدواعی القربیة .
ومن خواصّ هذا القسم : عدم إمکان النیابة فیه ؛ لعدم إمکان صدور الفعل من النائب أو المنوب عنه بإحدی الدواعی القربیة :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 163 أمّا المنوب عنه ؛ فلأنّه لم یکن مأموراً بهذه العبادة مباشرةً وتسبیباً ؛ لتکون استنابته أو استنابة وکیله أو وصیّه تسبیباً منه إلیٰ فعله .
وأمّا النائب ؛ فلأنّه لیس مأموراً بهذه العبادة نیابة عن غیره ؛ لیکون الأمر مصحّحاً لعبادیتها ، ولا أنّ الفعل محبوب للمولیٰ ، أو ذو مصلحة ترجع إلیه ؛ لیتسنّیٰ له إتیانه بها بداعی المحبوبیة أو المصلحة ، انتهی محرّراً .
وفیه : أنّ هذا المحقّق کأنّه خلط باب النیابة بباب التسبیب والمباشرة ، مع وجود الفرق بینهما ؛ لأنّ باب النیابة فی اعتبار العقلاء هو تنزیل النائب نفسه منزلة المنوب عنه .
فالنائب بعد التنزیل هو المنوب عنه ، والأفعال الصادرة عنه بعد التنزیل أفعال المنوب عنه بحسب الاعتبار ؛ ولذا یعتبر فی فعل النائب ما اعتبر فی فعل المنوب عنه بالنسبة إلی أحکام مخصوصة ، کالقصر والتمام والظهریة والعصریة وغیرها .
ولذا ذهب بعض الأکابر ـ دام ظلّه ـ إلیٰ عدم جواز الایتمام بمن یکون نائباً عن المیّت ؛ زاعماً أنّ الاقتداء لابدّ وأن یکون بالحیّ ، والنائب عن المیّت بحسب الاعتبار یکون میّتاً ، فلا یصحّ الایتمام به .
ونحـن وإن لم نساعده فی هـذه المسألة ؛ لعـدم توسعة دائرة النیابة عند العقلاء بنحـو یرون النائب میّتاً ، کما لا یخفیٰ . إلاّ أنّه لا إشکال عندهـم فی أنّ النائب اعتباراً هـو المنوب عنه ، ولا یکون النائب بما هـو نائب مأمـوراً به أصلاً ، بل المأمـور هو المنوب عنه . فإذن النائب عمّن کان مستطیعاً واستقرّ علیه الحجّ ولم یحجّ لم یکن
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 164 مأموراً بالحجّ ، بل المستطیع والمأمور به هو المنوب عنه ، والنائب بعد التنزیل هو المنوب عنه اعتباراً .
وأمّا باب التسبیب والمباشرة : فهو إیکال ما اُمر به علی الغیر ، أو إتیانه مباشرة ، والوکالة هی إیکال أمر الموکّل إلی الوکیل .
فإذن : باب التسبیب والمباشرة هو أنّه إذا أمر شخص بفعل فإمّا یعتبر إتیان الفعل منه بخصوصه ومباشرة ، أو یجوز تسبیب الغیر وإتیانه من قبله . فبابه باب المغایرة بین المأمور والذی یأتیه الغیر ، وإلاّ لا یصدق التسبیب .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا : یظهر لک أنّ باب النیابة غیر باب التسبیب . فالقول بأنّ النائب حیث لم یکن مأموراً فلا مصحّح لعبادیة عمله لا وجه له ؛ لما أشرنا أنّ النائب فی عالم الاعتبار هو المنوب عنه ، فیصحّ تصویر النیابة فی کلّ عبادة متوجّهة إلی المنوب عنه ؛ حتّیٰ فی العبادة التی تتقوّم عبادیتها بالأمر ، لو دلّ الدلیل علیٰ جواز النیابة فیها .
ولا وجه للقول بعدم إمکان تحقّق النیابة فی هذا القسم ؛ معلّلاً بعدم إمکان صدور الفعل من النائب أو المنوب عنه ، هذا .
مضافاً إلی أنّه یتوجّه علیه ما أشرنا إلیه آنفاً من عدم صدق العبادة المعبّرة عنها فی لغة الفرس بـ «پرستش» علیٰ کلّ إطاعة ، وإن کانت تتوقّف علی الأمر وقصد الإطاعة ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 165